-A +A
خالد طاشكندي (جدة) khalid_tashkndi@
المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين، وولي العهد، عازمة بكل حزم على مواصلة حربها ضد الفساد حفاظاً على مقدرات الوطن ومكتسباته، وقد أثبت ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عراب رؤية السعودية 2030 أنه يصبو نحو مستقبل زاهر للبلاد، فمنذ مقولته الشهيرة «لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد كائناً من كان» أصبح المؤكد أن المملكة ماضية قدماً نحو تطهير الوطن من شرور الفساد، خاصة وأن أحد أهم مفاتيح التنمية والتقدم والازدهار يكمن في القضاء على آفة الفساد بكافة أشكاله، وكانت الحملة التي شنتها القيادة السعودية ضد الفساد في 2017 هي نقطة الانطلاقة التي زلزلت أركانه، بدءاً من تشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد برئاسة ولي العهد، وعضوية عدد من الجهات المعنية وتتصل مباشرة بالملك، لتكون الغطاء القانوني لملاحقة كل من طالت يداه المال العام، شهادة على حزم القيادة بعد أن توجت جهود مكافحة الفساد باستعادة 400 مليار ريال لخزينة الدولة، ومؤكدة على الشفافية في اتخاذ الإجراءات وأنه لا أحد فوق القانون.

وفي خضم تلك الملاحقات القانونية الضخمة التي طالت شخصيات ذات صفات اعتبارية في الدولة سواء من أمراء أو وزراء ومسؤولين ورجال أعمال، قام المدعو سعد الجبري الذي عمل في عدة مناصب أمنية قيادية في وزارة الداخلية وثلة من أقربائه والضالعين معه في سرقة المال العام (شقيقه و2 من أبناء أخيه و2 من زملائه)، بالهرب خارج البلاد منذ 2017 تحسباً للمساءلة عن الأموال والأصول الضخمة التي تحصلوا عليها بغير وجه حق، إضافة إلى إساءة استعمال واستغلال السلطة لمصالحهم الشخصية وللتكسب غير الشرعي.


لقد فر الجبري إلى تركيا تزامناً مع إعلان دول الرباعي العربي الداعية لمكافحة الإرهاب لمقاطعة الدوحة في يونيو 2017، ولأنه لن ينعم بالأمان والحفاظ على سرقاته تنقل بين عدد من العواصم الأوروبية ثم إلى الولايات المتحدة، وآثر الصمت حينها ليجس النبض خلال مرحلة تنقله ظناً منه أن العقود الـ4 التي قضاها في المؤسسات الأمنية كمسؤول، وما اطلع عليه من أسرار وملفات أمنية مرتبطة بالإرهاب، ستوفر له حصانة من الملاحقة.

فغادر الولايات المتحدة ليستقر في مدينة تورنتو الكندية، وأخيراً فضح الإعلام الأمريكي خيانته بعد أن كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» أخيراً اختلاساته المالية مع الزمرة التي يقودها، حيث أساء صرف قرابة 11 مليار دولار من أموال الدولة، من خلال مدفوعات وعقود مباشرة ومبطنة بمبالغ ضخمة، إضافة إلى تضخيم تكلفة ملف مكافحة الإرهاب والتحكم في أدواته لابتزاز خزينة الدولة.

فواتير مكافحة دمى الإرهاب

بالعودة إلى تقرير صحيفة «وول ستريت» الذي فضح المستور عن سرقات سعد الجبري، أوضح التقرير أن الجبري أدار صندوقاً لوزارة الداخلية يستخدم للإنفاق الحكومي على جهود مكافحة الإرهاب، ووفقاً للوثائق التي حصلت عليها الصحيفة الأمريكية، أشرف الجبري على الصندوق على مدى 17 عاماً، وتدفق من خلاله نحو 20 مليار دولار أنفق أكثر من نصفها بشكل غير صحيح وغير مشروع، حيث ذهبت أموال من الصندوق إلى الجبري وعائلته وشركائه، وإلى حسابات مصرفية خارج البلاد، وهو ما يعزز صحة التقارير الإعلامية، وما تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بأن هذه الطغمة الفاسدة قامت بتضخيم ملف الإرهاب من أجل تضخيم فواتير وتكاليف مكافحته، وأنهم صنعوا منه «بعبعاً» لإرهاب المجتمع، وما هو إلا دمية يحركها هؤلاء الفاسدون لنهب المال العام، ويُستدل على ذلك بانحسار الإرهاب والعمليات الإرهابية منذ خروج هؤلاء الفاسدين من السلطة.

وضجت مواقع التواصل بآلاف التعليقات على تقرير «وول ستريت جورنال»، وسلّطت الكثير من الآراء الضوء على جوانب أخرى مرتبطة بفكر الجبري، الذي ربطه البعض بالتقارب الأيديولوجي مع جماعة الإخوان والصحوة، والعلاقات التي تربطه بهم، والمواقف التي تعزز تلك الادعاءات، باعتبار أن لديه صلة قرابة ومصاهرة مع أحد قيادات تيار الصحوة، وأنه كان أحد المعارضين لتصنيف جماعة الإخوان تنظيماً إرهابياً، إضافة إلى العلاقة الوطيدة التي تجمعه بملف تنظيم القاعدة، وعلاقاته الاستخباراتية، وارتباطه بتلك الأدوات التي خوّلت له التواصل مع قيادات الجماعات المتطرفة وفقاً لطبيعة مهامه العملية ومنصبه، إضافة إلى ادعاءات بأنه يقف وراء محاولة فاشلة لإعادة رموز الصحوة إلى المشهد من جديد، كما أنه أحد المسؤولين الداعمين لمشروع المراجعات الفكرية الفاشلة بين رموز التكفير، بعد أن دفع بالمحسوبين على التيارات المتشددة والمتطرفة للقيام بمراجعات ومعالجة أفكار المحكومين في قضايا الإرهاب، تمهيداً للإفراج عنهم، فيما الكثير منهم انتكس لاحقاً وعادوا إلى براثن الإرهاب والتطرف، إضافة إلى ما تم تداوله من تسريبات إعلامية حول علاقة الجبري واتصالاته المباشرة والمشبوهة برئيس الاستخبارات التركية هاكان فادان، وعلاقة صداقة وتواصل تربطه أيضاً بالرئيس التركي رجب أردوغان.

وانتشر قبل نحو خمس سنوات أكثر من مقطع فيديو على منصة «يوتيوب» لأفراد يبلغون عن تعاقدات لشركات حاسب آلي وتقنية معلومات أجنبية تم التعاقد معها بمليارات الريالات، وبما لا يستحق تلك المبالغ المرصودة للتعاقد معها، وأن هناك وثائق تثبت عمليات السرقة والفساد، وهو ما يعطي العديد من الدلالات المسبقة حول فساد الجبري وشركائه.

لصوصية الجبري!

لا شك أن ما قام به المدعو سعد الجبري خيانة عظمى، فهو لص رخيص باع ضميره وشرفه من أجل المال، حيث تشير المعلومات المعلنة إلى أنه خلال فترة عمله في وزارة الداخلية السعودية قام بإساءة صرف نحو 11 مليار دولار من أموال الدولة، وتسربت منها أموال هائلة تدفقت في حسابات تتبع له في بنوك خارجية، كما سطا مع أعوانه على مليار دولار بشكل مباشر، وحصل على عمولات هائلة من خلال العقود التي أبرمتها الوزارة مع شركات أجنبية وتم تضخيمها لزيادة قيمة العمولات التي يتقاضاها بطرق غير مشروعة، مستغلاً منصبه وصلاحياته لإرساء تلك العقود على الشركات المتفق معها وبتكلفة تقديرية تفوق القيمة الفعلية للخدمات المقدمة، ومن بينها شركتا «أوراكل» و«آي بي إم» بحسب ما ذكرته «وول ستريت جورنال».

وقام كذلك باستغلال المال العام لشراء عقارات في تركيا وسويسرا والولايات المتحدة، من بينها قصور في عدة مدن تركية. وفي العام 2013 اشترت الشركات التابعة للجبري وابنه -بحسب الوثائق التي تحصلت عليها الصحيفة الأمريكية- شقة في مدينة بوسطن بولاية ماساشوستس الأمريكية بمبلغ 3.5 مليون دولار، و4 وحدات سكنية في المبنى نفسه مقابل ما بين 670 ألف دولار وأكثر من مليون دولار للوحدة، وشقة أخرى بقيمة 4.3 مليون دولار في فندق «ماندارين أورينتال» في بوسطن عام 2017، وأنفقت الشركة التي يديرها ابنه خالد نحو 14 مليون دولار أخرى على شراء عقارات مشغلة من قبل فندق «فور سيزون» في مدينة بوسطن خلال العام الجاري 2020. وما تم فضحه إعلامياً يعطي دلالة كافية على أن السلطات الأمريكية على قناعة تامة بالثروات التي نهبها هذا اللص، وأنها تدرك تماماً أنه ليس معارضاً سياسياً وإنما مجرم فاسد هارب من القضاء، ولهذا السبب كان يتنقل بين عدة دول بحثاً عن ملاذ آمن.

الحسابات المشبوهة «على الصامت»

وفي الوقت الذي تفاعل آلاف المغردين مع «هاشتاق» (#فساد_سعد_الجبري)، توارت عن الأنظار مجموعة كبيرة من الحسابات الوهمية المشبوهة، أو ما بات يعرف بين رواد مواقع التواصل بـ«خلايا عزمي» التي حاولت أن تقدم نفسها كحسابات لشخصيات وطنية داخل المملكة، وكرست وقتها لخلق الفتن وتنفيذ أجندات الإخوان وقطر وتركيا، فيما انكشفت حقيقة الكثير من تلك الحسابات خاصة التي تمتلك حسابات مزدوجة على منصة «فيسبوك»، بعد أن افتضح أمرها في مارس 2019 إثر خلل فني كشف عن الموقع الذي ينشط منه أصحاب الحسابات، واتضح أن كثيراً منها يدار من تركيا وقطر، وكان حساب «نيزك» أحد تلك الحسابات البارزة بعد أن اتضح أنه يدار من تركيا. جميع تلك الحسابات ما كانت ستزايد على شخصية سعد الجبري الفاسدة، بعد أن فضحه تقرير صحيفة «وول ستريت جورنال» وكشف سرقاته المليارية بما لا يدعو للشك، فآثرت الصمت مساء (السبت) الذي تزامن مع نشر التقرير، في انتظار إشارة الجهات التي تحركها حول أي اتجاه تسير في التعاطي مع قضية جماهيرية من هذا النوع، وهي مسألة باتت مكشوفة لكل من يتابع ما تطرحه تلك المعرفات الموجهة.

تهريج «الجزيرة».. ملائكية الشيطان

بدورها المؤدلج والمكشوف، قامت قناة الجزيرة القطرية بتقديم قراءة تحليلية لتقرير الصحيفة الأمريكية، وأتت بكل ما لم يورد في محتوى تقرير اختلاسات الجبري، حيث قامت عبر فقرة «ما وراء الخبر» بمحاولة تقديم الجبري بما يفوق الوصف، على أنه معارض سياسي للنظام، في محاولة هزلية لتلميع صورته، متغاضية عن كل ما ورد في التقرير من عمليات فساد واختلاس ونهب منظم للمال العام على مدى سنوات، مقدمة عرضاً لمسرحية ساذجة بعيدة عن ما طرحه تحقيق «وول ستريت جورنال» لإظهار الجبري في صورة شخصية مناضل سياسي، فيما لم تتطرق لخيانته، ولا للمليارات التي سرقها، ولم تناقش الحقائق التي فضحته، مكتفية بتأويل المحتوى وتقديم اللص في شخصية بطل. هذا الطرح الفاضح والتهريج الإعلامي الذي تقوم به قناة الجزيرة، لم ينطلِ على رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين سخروا من محاولات قناة الجزيرة الفاقدة أدنى معايير المهنية، فإذا كان المدعو سعد الجبري معارضاً سياسياً وحكومة المملكة كانت تسعى لتشويه صورته، ما كانت السلطات الأمريكية ستكشف فضائحه المالية وتوضح له أن لصاً مثله لن يكون محصناً من الملاحقة القضائية. ولم يقتصر الأمر على التحليل المؤدلج الذي قدمته الجزيرة بسطحية معهودة بل استضافت آراء معارضين في الخارج لإضافة المزيد من التضليل حتى يكتمل المشهد المسرحي السامج الذي تمارسه «الجزيرة» كوسيلة لا علاقة لها بالعمل الإعلامي، ولم تعد طروحاتها الموجهة فقط في سياق العداء والخط المضاد مجدية مع المتابعين لهذه القناة، وغالبية من شاهدها كان يدفعه الفضول لمعرفة ما هو العهر المقولب على هيئة مادة إعلامية الذي سوف تبثه هذه القناة عن قضية اللص الهارب سعد الجبري.

هل أصبحت كندا ملاذاً للصوص والخونة؟

رغم ملايين الدولارات التي أنفقها الجبري وزمرته على الاستثمارات وشراء العقارات الفارهة في الولايات المتحدة إلا أن سعد الجبري كان معرضاً للمساءلة عن مصادر تلك الأموال، وهو ما سيفضي إلى اعتقاله في ظل قوانين مكافحة الإرهاب الصارمة، وتهم الفساد التي ستلاحقه، إضافة إلى التخوف الأمريكي من تسريب بعض المعلومات المتعلقة بالاتصالات التي أجراها مع أجهزة الاستخبارات الأجنبية خلال فترة عمله ومن بينها جهاز الـ«سي آي إيه» الأمريكي في مجال مكافحة الإرهاب، وما قد يشكله من خطر على الأمن القومي الأمريكي، وهو على الأرجح ما دفعه للجوء إلى كندا، التي من الواضح أن الأموال الطائلة التي اختلسها لعبت دوراً في توفير ملاذ آمن له.

ففي 2 أغسطس 2018، افتعلت الحكومة الكندية أزمة دبلوماسية بالتدخل في شؤون المملكة، بعد أن أصدرت وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند بياناً تطلب فيه من الحكومة السعودية إطلاق سراح معارضين، ورد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير آنذاك بأنه تدخل مرفوض في الشؤون الداخلية للمملكة وانتهاك لسيادتها، وتم طرد السفير الكندي دينيس هوراك من الأراضي السعودية، وسحب سفير المملكة لدى كندا نايف السديري، وتجميد جميع العلاقات التجارية ونقل الطلاب المبتعثين من كندا إلى دول أخرى، ونقل جميع المرضى السعوديين من كندا، كذلك إيقاف جميع الرحلات من وإلى كندا، وإيقاف استيراد المنتجات الكندية.

وفي موقف آخر يدل على أن كندا كانت تتعمد اختلاق أزمة دبلوماسية، قامت الحكومة الكندية بإعطاء اللجوء السياسي لفتاة سعودية مراهقة تدعى رهف في يناير 2019، بعد أن هربت من أسرتها بسبب خلافات عائلية إلى تايلند، وفي الوقت الذي تدخلت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين واعتبرت الفتاة الهاربة من أسرتها لاجئة، وطلبت من أستراليا منحها حق اللجوء، أعلنت وزارة الداخلية الأسترالية أنها ستدرس ملفها كما تفعل عادة مع آلاف الطلبات التي تتلقاها، إلا أن الحكومة الكندية دخلت على الخط وعرضت اللجوء على المراهقة السعودية، رغم أن عدد طلبات اللجوء المعلقة في كندا منذ 2018 تجاوز الـ64 ألف طلب، بل والأدهى من ذلك، قامت وزيرة الخارجية الكندية آنذاك كريستيا فريلاند باستقبالها في المطار وسط زخم إعلامي في تغطية واقعة منح لجوء لفتاة مراهقة على خلافات عائلية قد تجد حالات مشابهة لها في أي أسرة كندية، ولم يقع على تلك الفتاة أذى جسدي أو ما يثبت تعرضها للتعنيف المفرط حتى تتلقى تلك الأولوية والاهتمام المبالغ فيه.هذه الأحداث التي وقعت بعد أن حل المطلوب الهارب سعد الجبري الرحال في كندا وفي جعبته كمٌّ من المليارات على الأرجح تعادل أضعاف الميزان التجاري السعودي الكندي الذي يبلغ نحو 1.5 مليار دولار، تعطي دلالات على أن الحكومة الكندية كانت تبحث عن اختلاق الأزمات الدبلوماسية، وقدمت القضايا المذكورة كذرائع مفتعلة، للتحفظ على المليارات التي اختلسها لص فاسد هارب من العدالة.

ودلالة واضحة أخرى؛ إعلان رئيس الحكومة الكندية جاستن ترودو في أبريل الماضي أن بلاده أعادت التفاوض على شروط عقد بقيمة 10 مليارات دولار أمريكي، أبرمته مع المملكة في 2014 لبيع مدرعات مصفحة، رغم الأزمة الدبلوماسية، كما قال وزير الخارجية الكندي فرانسوا-فيليب شامباين في بيان: «إن إلغاء هذا العقد البالغة قيمته 14 مليار دولار كندي، كان يمكن أن يهدّد وظائف آلاف الكنديين»، وهو ما يعطي دلالة واضحة أن لهاث الحكومة الكندية وراء جمع الأموال والاستفادة من المليارات التي هرب بها الجبري، دفعها لاختلاق تلك الأزمات وتقديم مبررات واهية حول انتهاكات حقوق الإنسان، وفي حقيقة الأمر ما هي إلا مسرحية سخيفة.. ومن المعيب جداً أن تتحول كندا إلى ملاذ آمن وحامية للطبقة الكليبتوقراطية الفاسدة ولصوص المال العام.