-A +A
نبيل منصور نورالدين *
غالباً ما توصف الدلالة بأنها التقنية التي توصل المعنى إلى الإدراك لدى المتلقي وهذه الدلالة تأخذ حيزاً من الإدراك لدى المطلع أو القارئ لما يكتب شعراً أو نثراً أو رواية أو قصة أو تعبيراً أدبياً معيناً، وفي مجمل القول نقول إن الحيز الواسع للذاكرة لدى المتلقي يستبطن آفاقاً واسعة من المعاني والإيحاءات المستبطنة بفعل التكوين اللاوعيي للمفردة وتفجيراتها الدلالية التي تقوم على استيحاء مبطن للمفردات ومعانيها المستقاة من الذاكرة الإيحائية التي تصور استنكاهات المعاني المختلفة للمفردة في سياقها الرمزي التعبيري اللغوي.

وإذا كانت المفردة تحمل استبطاناتها الإيحائية من خلال التصوير المرئي للذات مع ما يناغم سياق التصور الداخلي للفكر واستيحاء وجهاته وأبعاده الرمزية فإن الفعل التراكمي للمفردة في الذاكرة يتكون بفعل إيحاءات متناصة بين الصور اللامحصورة بعمل من الأعمال المقروءة، ذلك أن التراكم لا يبطن مسألة الوعي بمفرده بل يحد من قيم التخيل ما لم يكن هناك قيم أخرى تفجر دلالاتها الإيحائية فحسب بل تستقي وجهات التصوير المرئي في الذاكرة من أعتاب ذاكرة التلقي المدعومة بذاكرة التخيل لدى المتلقي وهو ما يعني اتساع حيز واسع من التمثيل في الإدراك وهذا ما يقودنا في حديثنا عن القصائد الشعرية وتقنية الإيحاء في الأدب الشعري للشاعر السعودي حسن الصلهبي، الذي تحتل قوافيه وأشعاره حيزاً من ذاكرة المتلقي الروحية لما لأشعاره من فعل بموجب قدرته التصويرية واللغوية واستيحائه للمفردة التصويرية وتركيبها لغوياً، ما يجعله من أهم شعراء الإيحاء التصويري المبطن الذي يحمل المعنى دلالات لا نهائية تستقطن المخيلة وتوطن في الذاكرة مفردات وحي القصيدة ورمزها واستبطاناتها التصويرية في الإدراك، وهو ما نوجزه في قراءتنا هذه على عجالة لمجموعة من قصائد الشاعر حسن من مجموعات شعرية مختلفة من مجموعاته الكثيرة.


وللوقوف على ذلك نقول إن ديوان خائنة الشبه للشاعر حسن الصلهبي يعد بمثابة المفتاح اللغوي لشفرات استبطانات الوعي المحكي في ذاكرة المتلقي وهو ما يؤهله لأن يأخذ قراءتنا الأولى لقصائده بتمعن حصيف لما أسلفنا وقلناه عن قصائد هذا الشاعر الكبير حسن الصلهبي في دواوينه التي تسنى لنا الاطلاع عليها.

يقول الشاعر حسن الصلهبي من قصيدة «بين يدي يبرد الماء» من ديوان «خائنة الشبه» استباقا للتخيل المرئي في إدراك المتلقي ووقوفاً على عتبات ذاكرته:

«والآن

ظلك ملصق

فوق الجدار

يشف روحك

كيف يطفئها الدمُ

فعلام تنشج موجه

والزهر في حقل الدجى

في صمته

يتألمُ»

ففي هذا النسق الشعري يربط خيال الشاعر ذاكرة المتلقي بذاكرة مكانية يلازم ظله الملصق بالمكان وهو بذلك يسرب حيثيات التصاقه من حيث تصوره للمكان وملازمة شبح خياله اللامرئي لعداه لكنه ينتج في ثنايا المكان قوساً مرتبطاً بالروح ممدداً بذلك إلى عتبات التخيل الوجودي المرتبط بكينونة الكائن بقوله:

«يشف روحك

كيف يطفئها الدمُ

فعلام تنشج موجه

والزهر في حقل الدجى

في صمته

يتألمُ»

وهذا استبطان مقترن للوصفية النفسية للحدث والمحدث وتسريب لا مرئي لنسق الروح ضمن مخاطبتها للظل الذي هو خيال إدراكي يقف على عتبات الذاكرة وهذه مقامة تتحدر من الوعي إلى فوهة الخيال النفسي للذاكرة وبهذا يقفز الشاعر باستبطانه القائم على فتح منفذ للتخيل في الذاكرة لدى القارئ كما يقول أيضاً من القصيدة نفسها:

«متأبطاً وجعاً

شريداً واجفاً

في الروح حمى

والبصيرة طلسمُ

وانسج على فمك الظنون

فإن أظفار الحقيقة

باليقين تقلمُ»

وهذه الاختراقات لاستيطان ذاكرة المتخيل تقوم على معادلة الدمغ الفكري للفكرة بذاكرة المتخيل وعلى استبطان قيام المفردة في المخيلة مقام التذكر الدائم للإيحاء الذي ينبجس من ثنايا السياق ومثله قوله من قصيدة السواد:

ويقبع في ظله الغائبون يروون ظمأتهم من ظماه

تمسده الريح من كل صوب وتذرأ موتاً يقال حياة

إذ هو هنا يختصر مسافات التخيل ويجعلها ضيقة بينما يستبطن المد الأفقي لاستنكاهات المفردة عالماً متشعباً من الخيالات ترددها الذاكرة الموهومة بالحياة وهي موات في ذات اللحظة بينما المد التخيلي معروف بالعجز الذاتي للمتلقي إذ يحكم ذلك من وصل إلى مشارف النبوغ بالأفق الدلالي للمفردة وإيحاءاتها ببنية التصور الرائي للنسق ومع هذا يقيم الشاعر بينه وبين متلقيه عتبة من التخيل اللاتصويري للحدث مستمداً من الدلالة الأولى عدم الرؤية لمبهم التصور في الذاكرة مجانبة عقلانية تبلغ حدها الأقصى بالتخيل المرئي للحدث وهذه بلاغة مبتكرة في أشعار حسن الصلهبي يأتي بعد ذلك مدلول هذه البلاغة في قصيدة «عنق الزجاجة» من الديوان نفسه:

«ونفضت عن وجهي الغبار

فلم أجد

إلا تشابه أوجه الأشباحِ

من يا ترى يزجي المرايا للدمى

ويزج بالأرواح في الأرواحِ

قلق أنا حد الجنون

الموت فوق وسادتي

ووسادتي أتراحي»

إذ يمكن في هذا النسق الشعري اعتبار المتخيل فرضية للوسواس والظنون وفرضية الظل القابع وراء إدراكه لا ينفصلان معاً بل يظلان متوازيين في ساحة الوعي يمدهما أفق من التخيل الحثيث باتجاه المعرفة الطلسم للدماغ وهذه قمة المشاهدة الرؤيوية للخيال الظل في إدراك المتلقي.

وإذا كان هذا في ديوان «خائنة الشبه» ففي ديوان «هسيس» يمثل الظل المشاكس في الذاكرة حاجزاً بين الوعي وذاكرة التلقي وهو بذلك يؤطر نفسه في أحادية مزدوجة بين الوعي واللاوعي ويقيم مقام التلقي الآخر بالوعي فهو يشبه التمثيل التنظيري للوعي كما يحث الإدراك على تلقي المزيد من الإدراكات المبهمة في خضم التناقض بين الوعي والتلقي وهو ما يهمنا الوقوف عليه هنا في قصيدة «هسيس» التي يبدأ بها قوله للذاكرة المتخيلة:

«لا شيء يجبر للرحيل

من المكان

سوى المكان

متوسداً وجعي تركتك

ترتدين الطهر في عرس احتراقك

تطلقين لكل مجنون عنان»

فهو هنا لم يقف على الذاكرة فحسب بل يقف عند الإدراك للجنون وهو بهذا يحث الإدراك من خلال مجمل ما يقوله من خلال المخاطب الحكائي الروائي الموضوع أو القصيدة مستحثاً إدراك المتخيل على الخطى نحو الإدراك وهو بهذا يثبت الوعي بين التلقي والإدراك ويستعجل صحو الفهم مواءمة مع دائرة التلقين للمفردة كما هو شأن قوله في القصيدة نفسها:

«لا شيء يجعلني أنا إلا أنا

ما زلت أبصر قبل عيني

مضغة الطوفان

في رحم الأوان

لكنني لم أفترش ظلي

ولا غيبت اسئلتي

ولم أقعد على جسد الهوان»

كما يقول فيها:

«لا شيء يا نفسي

سوى نفسي مدان

_ اركب إذن معنا

وغرد مثلنا

وامزج بياضك في بياض طيوفنا

_ لاااااا

سوف آوي لليكون

وسوف اقتل كل كان»

وبهذا يستوي مفهوم الوعي القائم مع مفهوم الإدراك التلقيني للوعي ويتقابل الاثنان في المخيلة التنظيرية للبقاء كون الوعي نظرياً لا يستوعب الإدراك إذ هو ساحة للتخيل يقيم معها الاثنان الإدراك والفهم مقام الخيال.

* ناقد وشاعر يمني