محمد الحفظي
محمد الحفظي
-A +A
أحمد عسيري
منذ أربعين عاماً، وهو يمارس أناقته الشعرية المترفة، في وجدانية هفهافة وتشوف مطلق طافح بالشجن والبهجة، وطراوة الحنين الممض إلى الإمساك بالحلم الضائع، في دواوينه «العشرة» تلمس اللهفة اللاذعة وصراخ الروح الباحثة عن يقين نهائي: «أنت فاصلة ترتدي ملمس البحة التالية - صوت رياك لا يقف الآن إلا على رتل جوقته حين تتلو الغرق- وترحل في غصة تستلذ البقاء لتنحت إيغالها في اليقين» في كل تجاربه التأملية والغنائية، واشتباكه مع القصيدة بالغة النضارة والتدفق الإيقاعي شديد الحيوية، والتجليات الوارفة والانشغال بالخروج إلى مديات أوسع تضيء لغته، وتفصح عن لذائذه المتقدة، ومناخاته الوجدانية الملتهبة.

محمد الحفظي لا يعشق الحضور الصوتي الصاخب، ولذا تفتقد ذلك الملمح «بل يدخل هو طرفاً في هذا الإثراء فلا يعود وجوداً بيولوجياً مستقلاً عن صوت قصيدته، وإنما يضيف صوته هو يقحم جسده في عملية التأثير كلها؛ وهكذا يتضافر الجسدان معاً، جسد القصيدة وجسد الشاعر في إغداق هذا الرنين التهجدي الراجف» كما يقول علي جعفر العلاق: يقول الحفظي في قصيدة «الغروب الأخير» «أين مني الوصول؟ وقد أصبحت قدمي بين شقي رحى -لم أعد قادرا للمسير إلى سلة الظمأ المستبد- لأغدق فيها جناحاً من المطر الموئلي الغزير -ورهن الزوايا تضج بأوقاتها المعتمة حين توصلني للبكاء -فأفتح جوف الفؤاد السقيم وأنبض من وجه يوم يؤخرني عن تفتح أوردتي».


يترك محمد الحفظي لقصيدته حرية النبرة والإيقاع والتركيب والتجول، لتلبس الثوب الحامل لمعناها والمتصل بحبلها السري، والمشع في مفاصلها، والمغني لصورتها وتشكيل مشهدها، وبناء فضائها الشعري، وتخليق وإشباع المعادل الجمالي والطاقة الأدائية للشاعر، بعيداً عن العلاقات التضادية والتشاكل المفتعل، وخصومة الكيفية «وردية الخد أو وردية الشفة.. تمازجين مساء مترف اللغة -وتوفدين سرايا الحرف خالدة.. على أثير لقاء مترع الصفة -وتعتلين قلوباً كلها وجل.. وتعزفين حظوظاً حلوة السمة -حتى تغيبن قوس العمر منكسر.. ينأى ويحفر في الأوتار أغنيتي -تأكدي أن أوراقي معطرة.. كأنها منك تستفتي مسودتي -ومذ تفرعت الذكرى مؤججة.. تئن خلف ضلوع دون أسئلة».

لا يتساهل ولا يفرط الشاعر «محمد الحفظي» في التركيب المدهش في قصيدته، ولا في بعدها الدلالي، مما حقق لقصيدته التماسك والازدهار ورجحان الشحنة الوجدانية وعمق الرؤيا، تلمح في ميراثه الشعري إفصاحه عن تجربته الإنسانية بالغة العمق والاكتمال الصعب، ولكنها سعادة الروح المتأججة بالذات، واستطالتها من خلال منطوياتها المهيمنة على أغلب حقوله الشعرية صعوداً وهبوطاً، في نسيج وتموجات وانغمار ملتاع، مكتنز بدلالات درامية منقوعة في سديم الذات الجياشة والبوح الحميم «في البعيد أمازج عينيك في ألمي وأهيل بكفي النحيل على قوس جرحي وأوردتي المتعبة -في البعيد أنوء إلى صوتك المتجلي وأحشده نغما يتوسد قلبي -وأخبره كيف كنت عليلا - وكم كان ليلي عتيا -وقوس انحنائي يفت الضلوع ويتركني للبكاء الطويل».

في ديوان محمد الحفظي الأخير «مرايا الأقواس الغاضبة» تتنازعه انبهامات متدافعة مهيمنة على جل القصائد، مؤكدة حضور القلق الملح، والحيرة الملتبسة، والتساؤل الحاد والمستأنس الممعن في التبالغ مما يفعله الزمن وتحولاته من البعد والتناثر والغياب، وما يشكله من فداحة مرة وشعور قاسٍ، وتعالق مفعم بالفقد وسطوة الحنين «في البعيد -ركني القصي -أغيب ويصبح بعدي الكبير نزيفا بأوردة المتعبين -غيابك يفجعني كالرحيل -بعد الغروب المسجى -تجارين ركن التنائي -استبشر الوقت عند المغيب -أزفها كدعاء البيدكم وسعت من الأفول إلى وصل المحبين».

الحفظي محمد انصرف إلى بناء معماره الشعري والتأصيلي، وتعاليات منتجه الإبداعي دون أن يأبه بالمنعطفات الخانقة، والانشغالات المضللة، والقفز البائس على موائد وموارد الأضواء الباهتة، ومحاضن الصخب الارتكاسي، ودوي الطبول النحاسية، والعطالة الشعرية، فعانق الحياة ومرقاها، وانتصر للشعر والشعرية.