ميسون القاسمي
ميسون القاسمي




ميسون صقر تحتفي بكتابها الأخير «مقهى ريش.. عين على مصر».
ميسون صقر تحتفي بكتابها الأخير «مقهى ريش.. عين على مصر».
-A +A
حاورها: علي الرباعي Al_ARobai@
الرحلة لتقصي سيرة الكاتبة ميسون صقر القاسمي، شيّقة، وشاقة، فليس فوز عملها (مقهى ريش عين على مصر) بجائزة الشيخ زايد، هو الجاذب بوهجه، للحس الصحفي المتطلّع لحوار، بل عوالم إنسانة راقية؛ وشاعرة صادقة، وفنانة تشكيلية مائزة، وروائية تشعرن السرد، وتضخ فيه من حصيلة الدراسة والتجربة ما يحيله لبناء شاهق متماسك، تخرجت الشيخة ميسون من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية من قسم السياسة بجامعة القاهرة. وعملت في المجمع الثقافي بأبوظبي في مركز الوثائق، ومؤسسة الثقافة والفنون رئيساً لقسم الثقافة، ثم الفنون، ثم أنشأت قسماً للنشر، طبع الكثير من الكتب المترجمة والمؤلفة، وأقامت مهرجان الطفولة الأول والثاني. وعملت بوزارة الإعلام والثقافة مديراً للإدارة الثقافية، وهي عضو مجلس أمناء المركز القومي للترجمة في مصر 2021. ومن مؤلفاتها هكذا أسمي الأشياء، الريهقان، جريان في مادة الجسد، البيت، الآخر في عتمته، مكان آخر «رسم وشعر للأطفال»، السرد على هيئته «رسم وشعر»، تشكيل الأذى، عامل نفسه ماشي «عامية مصرية»، رجل مجنون لا يحبني، مخبية في هدومها الدلع «عامية مصرية»، أرملة قاطع طريق، جمالي في الصور.

• ما أثر وقع نبأ فوزك بجائزة الشيخ زايد للكتاب؟


•• لهذه الجائزة وقع مختلف لي باعتباري إماراتية، كونها تحمل اسما لشخصية عربية أصيلة لها دورها في إقامة دولة الإمارات العربية المتحدة، وندين له ولباقي حكام الإمارات السابقين والحاليين، بالفضل لوجودنا بهذه القوة على خريطة الواقع العالمي دولة معترف بها. وله الفضل في مساندة المجتمع المدني والإنساني والعالمي في وضع دولتنا في سياقها الحقيقي دولةً سباقة في مساندة المجتمعات في كوارثها الطبيعية والإنسانية وفي أزماتها.. مساندة دون أن يكون ذلك إلا كما تراه واجبا عليها مستنة فكرة المراعاة والفزعة (وتعني نصرة الضعيف ومساندته) والاهتمام بأن تكون بلد الإنسانية في معناها الواسع. تقوم بدورها على أكمل وجه بل هي حاسمة صامتة قادرة على أن لا تكون هناك مسافة بين الفعل والنية، بين الحديث والعمل، فدامت الإمارات على نهجه، نموذجا للسماحة والتسامح ودام اسمه عاليا مؤسسا لها.

• ما الذي تشعرين به اليوم وأنت الفائزة بجائزة الرواية؟

•• أشعر بالامتنان والفخر، وأشرف بهذه الجائزة التي هي وسام على صدري باعتباري أول كاتبة إماراتية تنالها في فرع الرواية منذ نشأة هذه الجائزة وإن حاز ذلك الشرف ثمانية آخرون في الفروع الأخرى منها شخصية العام، والنشر والتقنيات الثقافية، والتنمية وبناء الدولة، وفي أدب الطفل والناشئة، وأنظم إليهم الآن بفخر وفرح واعتزاز.

• ماذا يعني تكريم الدول للمثقفين؟

•• أحسب أن ما تقوم به الدول حين تكرم الكتاب والكتب أنها تضعنا كُتّاباً ومثقفين ومبدعين في مقدمة التنمية والتحضر والولوج إلى الآخر كثروة حقيقية من ثروات المجتمع عن طريق إصدار الكتب وإقامة المعارض لبيعها وتقديم الجوائز للمبدعين والناشرين. ودفعهم لإنتاج يوازي ما يكتب في الخارج ويولى الاهتمام به كما يولى الاهتمام بالفرد في كونه ثروة حقيقية مثل لاعب الكرة والممثل والإعلامي بل أكثر، لأنه يؤدي عملاّ يستلزم أداة هي لغتنا التي نحافظ عليها ونودعها خزينة القيمة.

• هل يقوم المثقف اليوم بدور تنموي؟

•• ما يقوم به الكُتّاب في كتابة الروايات والأدب والفن والشعر والنقد هو النظر لحياتنا من أبواب الإبداع وصقل التاريخ كسن قلم وتثبيت احترافية الحكي والنزول إلى الواقع وكشف المخفي في الحروب والمنازعات والأخطاء والتركيز عليها وعلى مشاعر إنسانية أخرى مثل الفرح والحب والنشأة والعنف والعلاقات والفن والألم واللعب الفني؛ أي التغلغل بين شرايين التخيل والأسطورة، والارتواء من الحكمة والثقافة، وترك العنان للخيال والتخييل، وإعمال العقل في الفكر والتفكر، والتخلص من شوائب الكراهية والتمييز والتعصب والجهل، ووضع الواقعي في إطاره الفني.

• ما الذي تمثله الرواية للكاتبة ميسون صقر؟

•• الروايات هي أرشيف الحياة الواقعية ممزوج بالحلم والشغف كإضافة أخرى للقدرة على الحياة وأثرها الأهم في كونها وثيقة إبداعية بين الواقع والخيال ننشئ منها مكانة أخرى في واقع الكلمة التي انتخب منها أقل القليل منذ ترجمة ألف ليلة وليلة (كأسطورتنا في الحكي اللاواقعي) إلى نجيب محفوظ (كأسطورتنا في الحكي المرتبط بالواقع الحي)، ليقدم عنا خارجياً وننشئ مكانتنا الأدبية (التي غبنا عنها بقصد أو دون قصد) بجانب أمكنة أخرى.

• لماذا نكتب سيرتنا؟

•• نكتب سيرنا وتاريخنا ونخلطه في أدبنا لا بشكل استشراقي كما يحدث من جانب الآخر عنا، لكن بشكل حري أن ننظر إليه في عمقه، نحتفي ونتألم ونحكي وننظر ونرى ونحلل وندين ونحب ونضحك من خلال عين تكحلت دوما بواقعية المكان وتاريخه في بؤرة نعرف خصوصيتها، وبين شخصيات لدينا مفاتيحهم وأسرارهم، سرياليتهم وواقعيتهم المغموسة بتاريخ حي ينبض من الانتقال البكر إلى عالم اللامحدود، ومن التفتت والانهيارات والأزمات مع الأفراح الصغيرة والعواطف الأجمل.

• كيف تقرأين أثر الحداثة في عالمنا العربي؟

•• الحداثة تضمن للعالم الدخول إلى واقع آخر، يجمعنا مع غيرنا، بالتركيز على قيمة الإنسان الفرد في جماعته وفي وطنه بقيمه لا في هجرته وتشتته، وفي العالم لا على هامشه، في التداخل الحقيقي بالامتزاج لا بالتنافر، نألفهم باللين لا بالعنف ولا بالشجار والحروب، نحتاج إلى نظرة أخرى ليست عطفا أو اندهاشا، نحتاج لنظرة يحترم فيها حضورنا ووجودنا وإنجازاتنا وقيمنا وإبداعنا. لسنا بعيدا عن العالم ولسنا نمطا أقل ولكن الأزمة في نظرة في العين التي تتوجه لمنجزاتنا كأنها لم تكتمل. كأنها عين ميت. (عين سمكة).

• ما الذي تضمنه كتابك (مقهى ريش، عين على مصر) الفائز بجائزة الشيخ زايد؟

•• كتابي رحلة بحث عن هذا الحضور الطاغي في تكوين المدينة وسيرتها وشخصيتها أيضاً من خلال نقطة صغيرة فيها من خلال المقهى، عن ثقافة المقهى، لا كمكان للجلوس فقط لكنه كحاوية مكان وتاريخ وزمن وأحداث وعلاقات. يمكننا البدء من نقطة في المكان والزمان لكننا لا ننتهي منها إلا لهذا الاحتشاد العميق والكبير في السيرة أو في السير المتوالية والمتراكمة خلف بعضها كما وردة تتفتح وريقاتها بين أيدينا. كمطر يهطل بغزارة، هو ليس حكاية مقهى أي مقهى، ولا مدينة أي مدينة.

• هل هو تاريخ المُعلن؛ المكشوف؟

•• هو تاريخ المفقود، والمخفي، والمردوم، في الذاكرة. بين واقع في التاريخ، وواقع بين السيرة والرواية، بين الحكائي والفني، وبين الجزيئات حين تكتمل في لوحة فسيفسائية بتفاصيلها كلها.

• متى شعرت بضرورة استلهام الموروث؟

•• كنت أُلقي الضوء على بعض ما لم يلتفت إليه من سرود بسيطة أو نتائج مذهلة كأن يمنع ذكر اسم سعد زغلول فيغني الشعب أغنية (يا بلح زغلول) مثلا وترسل الرسائل من جميع الأبقاع ليوضع اسمه على أظرفها، إمعانا في التذكر والمواجهة والتمويه واللعب والإصرار، كفكرة بسيطة يقف فيها الأعزل محاربا فكرة النسيان أو الإمحاء أو الصمت.

• هل نعدها كتابة دهشة؟

•• (إنها لحظة أكثر سحرية من روايات الدهشة)، يرتبط الكتاب فيها بما يهم كاتبه، إذ وجدتني أقتفي أثر الشعر في لحظات التحول والإنشاء. فيكتب فؤاد حداد قصيدة في محبة كوبري امبابة أو يكتب أمل دنقل قصيدة عن منصة تمثال ميدان التحرير التي لم يوضع عليها أبدا أي تمثال ليسميها الكعكة الحجرية، أو يكتب أحمد فؤاد نجم عن مثقف ريش أو يكتب.. أو يتظاهر المارة والساكنون من أجل الموافقة على وجود مسرح وموسيقى في مقهى قد يؤثر على سكون ليل منطقتهم ويقض مضجعهم الهادئ. لكنها الحياة المعجونة بالتداخل والمحبة والوعي وإدراك لقيمة الفن. (أليست هذه مصر التي كانت تنتظر لحظة غناء أم كلثوم كل أول شهر في الراديو في البيوت والمقاهي وتتوقف الحياة لتستمع لها).

• ما نسبة حضور السيرة في العمل؟

•• لم أكن أكتب سيرة من لحم ودم، لكنني كتبت سيرة بداخلها اللحم والدم والمواقف والأحداث والتغيرات سيرة مدينة (ليست أي مدينة لكنها القاهرة ويكفي اسمها القاهرة). ومن خلال مقهى تتداخل فيه سيرته الخاصة من بنيان، ومالكين، ووثائق، وأحداث، وسير الحاضرين، والمارين عليه، وسيرة بشر مروا وأقاموا واختلطوا وتفاعلوا. ومع فتح عدسة الرؤية أوسع وأبعد من ذلك تتشكل سيرة المباني والشوارع والأمكنة بمن فيها وما فيها من حكايات. كلما ابتعدنا كان وضوح صورة المدينة أكثر ارتكازا على اتساع الرؤية واشتمالها وكلما اقتربنا كان المقهى النموذج المصغر للسيرة. تتداخل وتتبادل فيه الشخصيتان أو الموقعان؛ موقع المقهى وهو داخل الموقع الأكبر والأشمل وهو موقع المدينة التي ينبض قلبها.

• كأنك جعلتِ المكان بطلا؟

•• في سياق حضور الشخصية المركزية (المقهى في الظاهر المقدم كبطل للسيرة لكنه بطل لإظهار بطولة أخرى لشخصية أخرى) والشخصية المحورية (هي المدينة وهي التي تملك البطولة الحقيقية المطلقة في سياقها مع التاريخ والبشر والأحداث) نتلصص عليها من ثقب صغير في جدار الحداثة الضخم، ثم تتسع الرؤية وتتعمق في زمن يفوق المائة عام.

• على ماذا قامت لعبة السرد؟

•• كان اللعب على السرد كحكاية من خلالها تتفتح ألعاب كثيرة مثل البطولة، وعلى تعدد الأصوات، وأخذ المعلومة من أكثر من وسيط (تحليل الوثائق، وكتب التاريخ أو البحث عن التاريخ في السير والروايات والشعر، والحكايات المسرودة كتابة أو شفاهة من أكثر من وسيط باختلاف الرؤية أو اتفاقها)، ووضع أكثر من فكرة للبداية وللنهاية، وكيفية التقسيم الداخلي لتتبع شخصية المدينة في أحوال وتواريخ متفرقة، وكذلك المقهى، واللعب بتقديم بطل محدد لتنتهي البطولة لآخر هو المدينة في النهاية، والعمل على فكرة الحكي بنظرة من أعلى كنظرة الطائر المحلق وعند الشروع في الهبوط بتوسيع دائرة النظر ثم تركيزها وتضييقها على مكان ما من خلاله نعود ومن خلال عناصر أخرى للتحليق مرة أخرى.

• بماذا عاد طائر الرصد؟

•• في العلو كانت المدينة بفسيفسائها الكبير، وفي الهبوط كان المقهى تفصيلة له؛ بتفاصيله ومنمنماته؛ مقارنة بالمدينة. وبين دفتي كتاب. أبدأ فيه سيرة أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة، إذ يجرني كل شيء فيه لحكايات وسير وأحاديث لأنتهي بعالم أشبه بواقع الحياة المصرية فكلما فتحت حكاية ظهر بطل آخر لحكاية من خلال الحكاية الأولى. وكما يقال (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة).

• لمن تهدين الفوز ونجاح العمل؟

•• أهدي نجاحي لوالديّ اللذين سهرا على انتباهي وخصوصيتي وغذوهما بالكتب والثقة والأمل، لأخي الذي كان سند الكتابة والفن، أهديه لوحدتي التي علمتني الصبر والتريث والبحث، وأهديه للقسوة التي علمتني أن الأشياء البسيطة ذات قيمة كبيرة. ولدار نهضة مصر ممثلة في الأستاذة داليا إبراهيم التي تحمست للكتاب وطبعته كأفضل ما تكون الطباعة في وقت قياسي ودون تدخل بل باحتفاء كبير، كما أهديه للأستاذة نشوى الحوفي مديرة النشر بالدار. وللأصدقاء الذين احتفوا بالكتاب وقيمته، إذ زرعوا الثقة فيه والفرح بقلبي وللأصدقاء الذين قبلوني صديقة وأختاً، والوسط الثقافي الذي كان ظهيري وأهلي وعائلتي الثقافية بالإمارات وفي مصر وفي العالم العربي، وأقول لولا وجودي بينهم لكنت ضيعت الطريق، متمنية لهم جميعا التوفيق. ولتاريخنا الأدبي والفني، لجغرافيتنا المفتوحة على تطواف الأدب والمدن بالتراكم والامتزاج الذي ينشأ من خلال البحث والارتواء من بئر عميقة، بين الذاكرة والإبداع وكتابتهما، بين البحث واللغة، بين السياق العام والعمق، بين الحضور والتميز. أهدي كتابي للإمارات الوطن الأم، ولمصر أم الدنيا حبيبة القلب. وللشارقة الذاكرة الأولى، ولأبوظبي الاكتشاف والوعي والتعلم.