-A +A
طلال صالح بنان
لا يُعد الاعتراف الدولي عنصراً من عناصر الدولة. الدول لا يُنشئها اعتراف الدول أو النظام الدولي بها، لكنها منتج نهائي لتوفر ثلاثة عناصر محلية (الشعب، الإقليم، والحكومة الوطنية). الاعتراف الدولي نتيجة لقيام الدولة، وليس عنصراً من عناصرها. وإن كان في حالات نادرة يُقْدِمُ النظام الدولي على إنشاء الدول، لكن تظل هذه الدول مشكوكاً في شرعيتها السياسية والأخلاقية القانونية.. وفي عضويتها بمجتمع الدول، كما هو حال إسرائيل، التي أنشئت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم: ١٨١، ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧.

كما أن الاعتراف الدولي لا يُنشئ الدول، في نفس الوقت، لا يمكن سحب الاعتراف الدولي عنها، بعد إعلان قيامها والاعتراف بها. للدول أن تقطع علاقتها الدبلوماسية بالدول الأخرى، لا أن تسحب اعترافها بها. من الناحية القانونية والسياسية، على سبيل المثال: لا يمكن لمصر ولا لأي دولة عربية وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل، أن تسحب اعترافها بـ«الدولة» العبرية، وإن كان لها أن تقطع علاقتها الدبلوماسية معها، متى أرادت.


إذن: نشأة الدول شأن سيادي حصري داخلي لها، يعكس إرادة الشعب فرض سيادته على أرضه (الإقليم) واحتكار قراره السيادي في حكم نفسه باختيار (حكومته) الوطنية، دون أي تدخل أو وصاية خارجية. إلا أنه تَطَوّرَ مؤخراً، أحياناً بشكلٍ فجٍ، تدخل الدول في شؤون بعضها ببعض، لدرجة القفز الصريح على حقوق أهم أركان قيام الدولة نفسه (الشعب)، بالتلاعب بل التعدي على إرادته في اختيار رموز ومؤسسات حكومته الوطنية، رغماً عن تجريم مثل هذه الأعمال دولياً، سياسياً وقانونياً.

نتيجة لمثل هذا التدخل الخارجي تُدَبّرُ المؤمرات لقلب أنظمة حكم وطنية، واستبدالها بأنظمة أخرى، ربما لا تعكس الإرادة العامة لشعوبها، لتقترب أكثر من مصالح أطراف دولية أو إقليمية بعينها. بعض الأطراف الدولية والإقليمية، قد تتورط في أعمال عنف نظامية أو غير نظامية، لتشجيع أو إثارة أعمال عنف داخل الدول، قد ترقى إلى مستوى الحروب الأهلية، التي قد تقود إلى تفكيك أقاليم الدولة المعترف بها، مما قد يتمخض عنه انفصال أقليم الدولة نفسه، لعدة كيانات سياسية (قبرص، الصومال والسودان).

هذا التدخل في شؤون الدول الداخلية مجرمٌ، سياسياً وقانونياً، حتى داخلياً وليس فقط، دولياً. توجد في الولايات المتحدة الأمريكية قوانين صارمة تُحَرِمُ على الحكومة الأمريكية الاعتراف بحكومات تأتي عن طريق الانقلابات العسكرية، خاصةً إذا جاء العسكر للحكم بالانقلاب على حكومة وطنية اُنتخبت ديمقراطياً. مثل هذا القانون يحكم السياسة الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي. جميع الكيانات الإقليمية تُحَرِمُ على أعضائها الاعتراف بحكومات تأتي بطرق عنيفة، خارج إرادة شعوبها.. وتعلق عضويتها في تلك الاتحادات، حتى توفق تلك الأنظمة أوضاع السلطة فيها ديمقراطياً. هناك جهودٌ حثيثةٌ لمنظمة الوحدة الأفريقية للحيلولة دون قفز العسكر على السلطة في السودان والجزائر.

من أهم أسباب فشل الكثير من التحولات الشعبوية التي تجري في كثير من دول المنطقة، ما يُطلق عليه (الدولة العميقة). الدولة العميقة جرى تجذيرها في مؤسسات الحكم والدولة لعقود طويلة، وأنشأت مصالح وعلاقات وطيدة لنخب سياسية وطبقية واجتماعية مع النخب السياسية الحاكمة. مكونات هذه الدولة العميقة هي، بشكل رئيس، وراء الثورات المضادة التي نجحت في إعادة إنتاج أنظمة حكم سابقة، من جديد.. وحالت دون حراك الشارع، وبلوغ غايته في سيادة حكم مدني يستمد شرعيته من الإرادة العامة.

لكنّ وراء متغير الدولة العميقة هذا، متغيراً آخر قد يكون أكثر عمقاً وأمضى فعلاً وكفاءةً في نجاح الثورات المضادة (النظام الدولي العميق). لا يمكن لجهود الثورة المضادة أن تتجاوز حراك الشارع، حتى لو سُمح بتمكينه لفترة ما لاختبار جدارته في التعبير عن إرادة الناس بآليات ديمقراطية حرة، لولا تدخل المتغير الخارجي. هل لنظام الأسد من فرصة أن ينجو من ثورة الشعب السوري عليه، لولا الدعم السياسي والعسكري المباشر من موسكو؟ هل لانقلاب الحوثي على ثورة الشعب اليمني وحكومته الشرعية أن يستمر، لولا التدخل الإيراني؟ من يعبث هذه الأيام في ليبيا ويؤجج الاقتتال الداخلي بها؟ بمن تستعين قوى الثورة المضادة في السودان والجزائر للقفز على مطالب حراك الشارع هناك؟

أنظمة الحكم التقليدية، في كثير من مجتمعات المنطقة ودول العالم الثالث، لا تعتمد في تكريس شرعيتها على البعد الأمني والسياسي، كمكون أساس للدولة العميقة بها، التي يتم استدعاؤها عند الحاجة لقيادة الثورة المضادة، بل هي، أيضاً: تعتمد على شبكة علاقات خارجية مع قوىً إقليميةٍ ودوليةٍ، تكون الرديف الخارجي الأمضى في حسم معركة الدولة العميقة، مع قوى التغير المتمثّلة في حراك الشارع.

كثير من دول المنطقة محاطة بمتغيرات داخلية وخارجية (عميقة) تتلاطمها أمواج عاتية تتقاذفها بعيداً عن اكتمال عناصر مكوناتها الطبيعية كدول مستقلة وذات سيادة تعكس إرادة شعوبها الحرة، في حكم نفسها.. وتحمل مجد وتاريخ هويتها الوطنية.

الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (١٦٣٢ - ١٧٠٤)، في عرض نظريته للعقد الاجتماعي، انتقاداً لنظرية معاصره توماس هوبز (٥٨٨- ١٦٧٩)، يقول: الدول لا تزول عن طريق إحداث تغييرات جذرية في قمة السلطة بها، إنما تزول بالغزو الأجنبي لها.

عمق النظام الدولي، أقسى سُحْقَاً من الدولة العميقة.

* كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com