لا توجد لعبة جماعية تحظَى بشعبية أممية كاسحة، مثل كرة القدم. يكفي أنه يُنصب لها مونديال حصري (عالمي)، كل أربع سنوات.. ويكفيها أن الجهة المنظمة لها (الفيفا) تتمتع بقوة أممية ناعمة كاسحة. قوانين الفيفا تسري على دول عظمى، لا تتمتع قوتها (الناعمة والصلبة) بمثل ما تتمتع به الفيفا، على مستوى العالم، من احترام لقوانينها والإذعان لنفوذها، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي. كما أن ميزانية الفيفا تفوق ميزانيات دول، بل ومجموعات من الدول، ولا تعاني عجزاً فيها. الفيفا منظمة غنية، لا تحتاج القروض ولا للمديونيات ولا تعاني من أعباء فوائدها، لأي جهة مالية أممية. ميزة اقتصادية، تحسدها عليها دول غنية كُثُر تعاني من أعباء الديون، داخلية وخارجية، بما يفوق أحياناً مجموع ناتجها المحلي.
نبدأ أولاً من «مونديال» كأس العرب، الذي انتهى، الأسبوع الماضي، بفوز المغرب، بجدارة واستحقاق. ألف مبروك للمغرب وجماهيره. ثانياً: أود التنويه هنا، إلى أني لست من المغرمين بكرة القدم، أتابع فعالياتها، لا على المستوى المحلي، ولا على المستوى الإقليمي والدولي. كما لا أفهم كثيراً، لا في قوانينها، ولا في تكتيكاتها، ولا في تاريخها، ولا في فنون نقدها.
ما يجذبني إلى كل ذلك في اللعبة، بعدها السياسي، بوصفها مجالاً لحركة مسرح اللعبة، على مستوى المحلي والخارجي. كذلك تلك الشعبية الطاغية، بين شعوب الأرض، التي تفوق شرعية اللعبة، نفسها.. وتعطيها هذا الزخم السياسي والاجتماعي، بما يفوق الشعبية، التي تحظى بها أي حكومة في العالم.. وتحسدها عليها منظمات المجتمع المدني، سواء كانت مرجعياتها في الحكم أو المعارضة. تلك الشرعية «السياسية»، إن صح التعبير، لا تقتصر على شعبيتها المحلية والدولية، بل تمتد إلى نجومها، لتتجاوز محيطهم المحلي. جماهير كرة القدم، على سبيل المثال: يعرفون عن اللاعب البرازيلي الأشهر (بيليه) واللاعب الأرجنتيني المبدع (مارادونا)، وحديثاً زيدان وميسي ومحمد صلاح، أكثر مما يعرفون عن زعماء كانت لهم بصمات، إيجابية أو سلبية على تاريخ البشرية، مثل: تشرشل وأيزنهاور وهتلر وتوجو وستالين وماوتسي تونغ، أو حتى رموز وطنية فذة، كان لها دور في نشأة الدولة وفضل استقلالها استمرارها ومنعتها... إلى آخره.!
مشكلة كرة القدم الرئيسية في البعد المحلي، الذي لا يعكس حقيقةً البيئة المحلية، للاعبي كرة القدم. على مستوى العالم. نادراً ما تجد منتخباً، يمثل في تشكيله بلده تمثيلاً وطنياً خالصاً، بما في ذلك بعض منتخبات القوى العالمية الكبرى. غالباً المنتخبات الوطنية، ما تُتطعم، وإن أردنا الصراحة، تعيب تشكيلاتها، الهوية الوطنية، بشكل حصري وصريح. حتى أن لاعبي المنتخبات الوطنية، قد يغلب عليهم، المواطنة بالتجنس (السيادي المباشر)، على المواطنة الحقيقية (الأصلية)، التي ترجع للتراب والدم، وحتى التجنس القانوني.
هذا ليس توجه عنصري قد يستفز البعض، لكن الأمر حقيقةً، يعكس سياسياً: مساومة بعض الدول لهويتها القومية، تطلعاً إلى نجومية خادعة، ترى أنها تدعم نظامها السياسي في الداخل، وتدعم قواها الناعمة، خارجياً. أحياناً، بعض الدول تستقدم نجوماً رياضية لتطعيم منتخباتها الوطنية، كما يُزعم، بنجوم عالمية، في الوقت الذي لا يتكلم هؤلاء النجوم (الأجانب) لغة الدولة المضيفة، وبالتبعية: لا ينتمون إلى ثقافتها... دعك من ضمان ولائهم الوطني. بل حتى أن بعض الدول، في سبيل إغراء لاعبين أجانب ليلعبوا ضمن منتخباتها الوطنية، نراهم لا يغرونهم بالمال، فقط، بل أحياناً يساومون على قوانين الدولة نفسها، بما لا يتمتع بها مواطنوها، ولا حتى أصحاب الحصانة من رموزها! بل حتى أنه غالباً ما يمنحون جنسية البلد لنجوم عالميين شارفوا على أفول نجوميتهم، بحجة الاستفادة من خبرتهم، أو لمجرد التباهي أمام خصومهم ومنافسيهم الإقليميين والدوليين، أنهم نجحوا في استقطاب هذه النجوم، فيما لم ينجح فيه آخرون. هذا لا يتوقف عند الفريق، بل يمتد إلى الطاقم الفني، وأحياناً الإداري. في النهاية، يتشكّل لدينا منتخب لا يعكس حقيقة جغرافية الدولة الإنسانية، ولا ثقافتها المجتمعية، ولا حتى تاريخها القومي. والأهم: ولا حقيقة وضع كرة القدم فيها.
يما يخص الرياضة: كرة القدم بالذات، وكذا الثقافة وغيرهما من موارد القوة الناعمة الحقيقية والمحتملة، لأي دولة، من البديهي، بل والحتمي، لا بد أن تكون نتاجاً للبيئة الوطنية الخالصة، أو على الأقل تغلب عليها. هي موارد قوة لا تُشترى بالمال ولا تُجتذب، بإغراءات المساومة على السيادة الوطنية، في حين لو أنفقت برشد على مصادر القوة المحلية الحقيقية والمحتملة، لكان العائد على الدولة، أجزل وأجدى.
لا عجب، إذن: أن يطلق على كرة القدم الساحرة المستديرة. فسحرها ليس فقط في استدارة كرويتها، ولا تكتيكات لعبها.. وإثارة حركتها.. ونجومية لاعبيها وهستيرية الفوز فيها، بقدر نفاذ سحرها لوجدان الجماهير. النخب السياسية، ترى فيها تعويضاً عن ضعف أدائهم السياسي، وأحياناً فشلهم السياسي، باللجوء إلى شعبية مصطنعة غير حقيقية، يتخذونها وقوداً لصراعهم السياسي. بينما سحرها للشعوب (جماهيرياً) يتمثل في الانشغال عن قضايا واحتياجات أساسية، تتوارى في خضم وغمرة هذا العشق المغرق في الهيام، لكرة القدم.


