-A +A
علي بن محمد الرباعي
احقلت الوديان بسنابل الحنطة الذهبية؛ وإذا هبّت الهبوب، تمايلها يمنة ويسرة، كأنها خصلات شعور الفاتنات إذا بدين من رأس الريع، وغيوم الصيف تجي وتروح، والعريفة يطلب الله في بوج طيب، ويرتّب أولوية الصرام؛ فأصحاب الحيازات الكبيرة، في الأيام الأولى، ويفزع لهم رجال ونساء القرية، ويوم الصرام الأول؛ فطور الصرامة من بيت العريفة، ثم يدور الدور إلى آخر بيت، واعتنى الدياسة بخلب الجُرن بطين وروث بقر، وجهزوا الخوارم وحُجران الدياس، وبطّنوا المصالب؛ ببلاستيك؛ لكي لا تحزّ الخشبة رقاب الثيران، وجهزوا مظلات للأطفال وكبار السن في المساطح، تقيهم شمس القيلة.

صبّح (المنقوح) على الحداد، وفي يده خيشة بها خمسة أمحاش، طلب منه على عجل يسنّ الكبير المعقوف،


لأنه معه عقشة وده يصرمها فنصحه الحداد يولّع فيها، بعدما يرشها بالقاز، ليتفادى الخموش والديبان، أعجبته الفكرة لكنه تذكّر أن عروقها ممتدة إلى قاع الكُرّ، وما بتتوالع فيها القبس على سيره، فقال بنجرّب والجِرّابة ما تفقد المجرّب صوابه.

كانت كل الركايب المحيطة بعشقة (المنقوح) محقلة بالصيف اللي حبه يشوق العين، والكل متأهب لجمع ما وهب ربي، قبل حلول أمطار المصاييف، فدار حول العقشة بقارورة قاز، ورشّ أعلاها وأسفلها، وشخط بعود الكبريت، وما أمده يزقفه، إلا وصوت طقطقة النار يتعالى، والوارية تعانق الجو، وامتد اللهب يمنة ويسرة بفعل الرياح، فحاول يخفف من ضررها بالتربان، لكن ما قدر يصاليها، فاستغاث، ببنات الحمايل المجتمعات رأس البئر للتزود بالماء في القرب الجلدية، فحملت كل واحدة قربتها وفكت ثمها على النار، وحوطنها بالماء فنجت الأملاك الزراعية من الحرق، فدعاهنّ للاستظلال تحت المشمشة وخرط لهن من حباتها الناضجة، فجادت قريحة الوافدة (منقوحة) وهي أكثرهن جُرأة وبدعت (حليل من يجلب الشبّه على روحه، يعرف يولّع ولا يعرف يطفّيها) فالتطم وجهه، واحتقر، وتلعثم في الردّ عليها ثم تنحنح، وقال (ترى مساري الغداري حيل مفضوحه، وذا ما اكتفت من حليل وش يكفّيها) فكان الرد صدمة لها، ونسيت قربتها وراحت تتدهشر، ورفيقاتها يتضاحكن، ويحذفن المنقوح بعجم المشمش المتساقط تحتها، ويقلن (يا فضيحة اللي تعرف سدّها يا المنقوح) وهو لا يُلقي لهنّ بالاً، يشفط سيجارته، ويشغب بصوت ملحون (إذا لمحت الصيد خالي ما اطول ايدي؛ واذا رجعت البيت يدري الله بحالي).

رُحن الساقيات، والرجال ما تحرك من تحت مشمشته، يسرحها ضان، ويروّحها معزى، ويلوم نفسه على القدح في سُمعة (منقوحة) قُدّام رفيقاتها، قشع الشماغ عن رأس بلا شعر، وضرب بكفه على الصلعة، وسحبها إلى ذقنه، وهو يردد (صاحب الحاجات من قاساها) وفزّ ليملأ قربتها، من البئر. يمسك عروة الدلو بكف، ويفتح فم القربة بالثاني، ثم علّقها في المشمشة، وجمع في شماغه من المشمش اللي يسدّ جماعة، واحتضن القربة فوق حماره، والشماغ المصفّرة من نضج المشمش فوق رأسه، ولا وقف إلا في ساحة بيتها.

ترددت (منقوحة) في مقابلته، فأقسم عليها زوجها (أبو شمّة) لتقوم تلقاه، وترحب، ودخل بالقربة والخُرفة، وما تلكأ في تبرير بيت الشعر، وقال لزوجها؛ هي اللي حدّتني على الجُرْف المتهايل، كمدتني يا بو شمة قُدام النسوان، والبدع ما يسد فيه إلا ردود، والرد يا يجي فوق الهدف، يا يجي دونه، يا يصيبه في نُقرة الرقبة، وأضاف؛ إلا وغير، والله يا عشاكم ذا الليلة إنت ومنقوحة إنّه من عشانا.

ما عبّت ولا ثبّت زوجة المنقوح، إلا والرجال يطلب منها تولّم عشاها خبزة ومرقة، على الباقي من سادي بقري، منشور فوق (حمّالة اللحم) سألته حرمته؛ من بيجي عندك، فقال؛ جارتنا منقوحة ورجّالها أبو شمة، فقالت؛ يا الله ردّ له عقله، تعزم (أم طقّ الاصبع) اللي ما لها ملّة ولا مذهب، وتخلّي شمطان اللُحى، فقال؛ شمطان اللُحى اللي تقولين ما بيفزعون يصرمون معنا بعد بكرة، ومنقوحة تسوى قرية، والصرامة، ما يسمعون بصوتها في وادي إلا وتقاطروا؛ ذا يصرم، وذا يلف العيش، وذا ينظم فتايل، وذا يعقّد، وذا يشيل، وذا يُحبل العيش، وما باخلي صيفي تأكله النجول.

أقبل الضيوف بعد المغرب، وهيّل المنقوح دلته، وصب لمنقوحة، ثم زوجها، وزوجته تتلهلب، وكل ما سمعت ضحكة الضيفة قالت (ما يضحك إلا الهايمات من النسا، والا رجالٍ ما تداري العاقبة) فتزيد منقوحة في ضحكها كياد، فنغزت زوجة المنقوح الاتريك بعود، وقالت؛ انكثت الفتيلة، واستغلت الظلمة، ومدّت لأمها باللحمة من فوق الجناح، وتناولت منها قدر صغير، وعندما وردوا على العشاء، افتقد اللحمة، يمد الكف بخفسته في المرقة، فتخرج له (طبيخة) عدس، فعلّق؛ سبحان من بدّل اللحمة طبيخه، تضاحكوا؛ وبعد العشاء تسامروا فبدع (سرت لحمة المنقوح في ليلة ظلما، وانا كيف اسوي بين دانع وطمّاعه).

نشبت النشوب، من ذيك الليلة، وشردت زوجة المنقوح عند أهلها، والصرام ما بقي عليه إلا أيام، قالت (منقوحة) بليت همه والله لو محرثة أسبوع لاسدك فيه، فقال؛ بيّض الله وجهك، وأخرج من الكمر عشرة ريال حمراء، وحطها في باطن كفها، فغرستها تحت مشدّ رأسها، وانتهت القرية من صرام الحنطة، واخرجوا العُشور للمتشبرة يوم حصاده، وأمّن كل واحد منهم مؤنة بيته من الحبّ لمدة عام، وبسبب حرارة الشمس، مرض زوج منقوحة، وانفقعت المِسكة في بطنه، وما كمّل ثلاث ليالي حتى قبروه، وصارت عين (المنقوح) على بيت منقوحة؛ ليل الله ونهاره يكلأ، فالعيون المغطّشة تكحّلت، والروس المدنقة شمخت، فحط له في البداية المطلة على منزلها محجاة، وغدت كل همه؛ يراعيها ويوفّر لها احتياجها، وكلما حاول العريفة والفقيه يردون عليه، زوجته الشارد، يتعذر منهم، ويقولون أمهلوني لين أشاوي من فتاق أسفل بطني.

تزوّج المنقوح، وانقسمت القرية بين مؤيد ومعارض، وعابت القديمة على الجديدة، اقترانها بالقُرحان اللي ما غير يهدر بثمّه وكُمّه ميّت؛ قالت منقوحة؛ كمن الله يكرمني واستذري منه؟ فردّت عليها؛ قلبته قبلك وما لقيت إلا مقلب كهلة، قالت منقوحة؛ بادجّنه وأغذّيه، والله يعطيني ويعطيه، فقالت القديمة؛ القحم قحم لو تزغدينه الشحم.