-A +A
نجيب يماني
القلب عجيب أمره، وعميق سرّه وصعب قياده.

إن تسأل أهل الاختصاص في التشريح والموروفولوجيا (Morphology)، فلن تخرج منهم إلا بظاهر من القول إنه عضو عضلي وظيفته ضخ الدم عبر الأوعية الدموية، فبنبضه تعرف الحياة وبتوقفه ينقضي الأجل بالوفاة.


وإن تسأل أهل العلم بالسرائر في معرفة دقائق أسراره، وحججت إلى آي الذكر الحكيم، فثمة ما يروي الظمأ، ويزيدك حيرة ودهشة عن هذه «المضخة» فقد أحصوا (169) آية ورد فيها ذكر القلب، فتارة هو موضع التعقل، وفي أخرى موئل السرائر، وفي ثالثة منعقد الاعتقاد، لخّصه المفكّر عبدالقاهر الجرجاني بقوله «القلب مصطلح على اللطيفة الربَّانية بالقلب الجسماني الصنوبري الشكل المودع من الصدر، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان»، وهو معنى تكتمل صورته باستصحاب قول أهل اللغة بأنه «الفؤاد، والعقل المحض، وخالص كل شيء»، لكن الفلاسفة ضربوا في التيه الأبعد بحثًا عن قول يجمع، وشرح يفصّل، فسموه بـ«النفس الناطقة، والروح الباطنة، والنفس الحيوانية المركبة، وهي النفس المدركة العالمة من الإنسان».

لكن أهل الهوى، ما عرفوه إلا موطن العشق وكهف أسراره، ومضيفة الحبيبة، فطالبوه بكتمان الهوى، وحذروا من البوح والافتضاح، وهيهات.

فالحب حلوٌ أمرته عواقبُهُ

وصاحب الحب صبُّ القلب ذائبُهُ

أستودعُ الله من باللَّحظِ ودّعني

يوم الفراقِ ودمعُ العينِ ساكبُهُ

ثمَّ انثنيتُ وداعي الشّوق يهتف بي

ارفق بقلبك قد عزّت مطالبُهُ

أما إن حننت إلى المغنى، والتعبير الصادق عن القلب وهواتفه؛ فلا تجد غير طلال مدّاح بعذب اللحن، يشدوا

«ظالم ولكن في القلب لسى هواه

كم قلت بكره يحن القاه يزيد في جفاه

ينسى الهوى ينساه قولوله ليه ينساه

يعني عشان بهواه يعمل كدا فيه»..

اضرب بأي اتجاه شئت؛ فهكذا سيكون حالك، مضطربًا لا تمسك من هذا القلب بتعريف جامع، ولا تسبر منه غورًا.. يزداد عمقًا كلما توهمت أنك أحطت به، وأدركت معناه. وينأى عنك كلما دنوت من شاطئه.. تحاول له ترويضًا فينفلت عنك، وتسعى لتنظيم نبضاته فما يسلس لك القياد.

فهو في محراب الجمال عابد وفي سكينة الورع زاهد وفي أتون العشق ماجن

ترجو له الصلاح، وتسأل الله له العافية وتصحبه في الحياة كما يريد، آملاً أن يبقى لك سليمًا. وهيهات فإما أمراض معنوية تعروه، فيضيّق عليك واسع الكون، لتبحث عمّن يهدّئ ثائرته، ويسكت هواجسه وإما أمراض عضوية، نهض لها أرباب العلم، في تطور مستمر، طوّعت ما كان عسيرًا بالأمس، ليصبح ميسورًا اليوم.. وما كان مستحيلاً في ظنّ العوام قديمًا، إلى واقع معيش في الحاضر..

فمنذا الذي كان يظنّ أن قلبًا في جوف أحدهم، سينتقل إلى صدر آخر ليمنحه الحياة.. هذا ما حدث هنا في قلب الرياض، جرت فصول هذا الإنجاز الطبي العظيم، فقد «تمكن فريق طبي متخصّص بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، من إجراء عملية إزالة قلب من متبرع بدولة الإمارات وزراعته لمريض بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، خلال وقت قياسي حيث جرى التنسيق مع المركز السعودي لزراعة الأعضاء، والبرنامج الوطني للتبرع وزراعة الأعضاء والأنسجة البشرية (حياة) في الإمارات، والإخلاء الطبي الجوي، حيث قام الفريق الطبي في «التخصصي» بالسفر إلى الإمارات، وأجرى عملية إزالة القلب من المتبرع المتوفى خلال 40 دقيقة بمستشفى كليفلاند أبوظبي، واستغرق نقل القلب عبر الإخلاء الطبي الجوي ووصوله إلى غرفة العمليات في تخصصي الرياض قرابة ثلاث ساعات وعشرين دقيقة.

إنجاز تعجز الكلمات عن وصفه، يقف شاهدًا على ما توليه قيادتنا الرشيدة، من اهتمام متعاظم بصحة الإنسان، وتوفير كافة السبل من أجل توطين العلاج، والتأكيد على قدرة كوادرها الطبية على صنع المعجزات والوقوف ندًّا للعالم في هذا المجال.

كما يعبّر هذا الإنجاز عن المكانة التي بلغها «التخصصي» في ظل إدارته الحالية القادرة على صنع المستحيل والعمل على تحسين جودة وكفاءة الخدمات الصحية سعيا لحجز مكانها ضمن قائمة أفضل 10 مؤسسات صحية حول العالم، وتحقيق طموحات القيادة وإنزال الرؤية المباركة على آرض الواقع.

هذه العملية التي تمت في «التخصصي»، تضع وطننا في مصاف الدول التي قطعت شوطًا بعيدًا في مجال زراعة الأعضاء، عمومًا، والقلب خصوصًا ويفتح باب الأمل واسعًا أمام كل من يعاني، ليجد الحل في التخصصي خاصة وأن منصة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة قد استقطبت آلافًا من السعوديين بعد إعلان خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله، التسجيل ببرنامج التبرع بالأعضاء.

واذكر القارئ الكريم بحديث الدكتور ماجد الفياض المشرف العام التنفيذي على المستشفى لصحيفة عكاظ في شهر سبتمر الماضى ٢٠٢١م بأن المستشفى حققت 84% من أهداف مبادرتي التحول المؤسسي والتشغيلي عبر تأسيس نظام الجراحة الروبوتي السريري لزراعة الأعضاء، وبرامج القلب والمسالك البولية، ما يمكّنه من إجراء جراحات معقدة بدقة عالية ونتائج تضاهي العالمية، لاسيما أن المستشفى ضمن أكبر 5 مراكز عالمية في جراحات الروبوت للقلب، إضافة لاستخدام تقنيات مبتكرة لإجراءات جراحات استبدال صمام القلب، إذ تم إجراء (88) عملية استبدال صمام بالمنظار بنسبة نجاح 100%

الذي نعيشه اليوم مظهر من مظاهر جودة الحياة على إيقاع الرؤية المستشرفة صحوة الجمال في كل منافذ الحياة وانطلاق السعودية نحو آفاق أرحب بقدر ما تسعها القدرة ويحتملها الطموح نعيش فرح الإنجاز وكأنه همس نبض رقيق لقلب اللحظة التى نعيشها.

تحية إكبار لكل عامل من ذكر أو أنثى وأعلن للدنيا أننا بخير.