-A +A
صدقة يحيى فاضل
عندما نمعن النظر في حرب روسيا على أوكرانيا، أو ما تسميه روسيا بـ«العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا»، نجد أن معظم العالم منخرط، أو متأثر، بشكل أو آخر، في هذه الحرب، التي يحبس الكثيرون أنفاسهم؛ خشية أن تتصاعد لدرجة الانفلات، وحدوث ما لا تحمد عقباه، وهو الاصطدام المروع المحتمل بين روسيا وحلفائها من جهة، والغرب وحلفائه من جهة أخرى. وعندما نحاول حصر أهم «أطراف» هذا الصراع الدولي الساخن المباشرين، الذي يصفه البعض بأنه تمهيد للحرب العالمية الثالثة والأخيرة، سنجد أن هذه الحرب تهم وتشغل معظم العالم، بشكل أو آخر. وهناك أربعة أطراف رئيسة هي الأطراف المباشرة، وشبه المباشرة، الأهم في هذا الصراع. وهي كالتالي.

- روسيا: إنها، في واقع الأمر، تدفع خطراً فادحاً محتملاً على أمنها القومي، ووحدة أراضيها، وسيادتها. خطر سيأتي حتماً من أوكرانيا بخاصة، إن هي انضمت لحلف ناتو، المعادي جدّاً لروسيا، واستمرت في استفزاز الروس، عبر فزاعة الغرب. وذلك تحسب مشروع، ومبرر تماماً، رغم «قسوة» رد الفعل الروسي، الذي تمثل في التنكيل بأوكرانيا، إنساناً وأرضاً. فمن الناحية القانونية، ترتكب روسيا، بحربها هذه، مخالفة فظيعة للقانون الدولي، الذي يجرم الحرب الهجومية. والمتوقع أن تحقق روسيا أغلب أهدافها من هذه الحرب، ما لم يحصل الاصطدام الكبير بينها وبين الغرب. وستؤكد روسيا، إن هي انتصرت، بعد تصعيدها المطول، موقعها كقطب جديد- قديم.


****

وقد كانت روسيا، وما زالت، هي الهاجس الأمني- السياسي الأكبر لأعضاء حلف ناتو، رغم كونها -بالدرجة الأولى- دولة أوروبية كبرى، إلا أن هناك عداءً أوروبياً تاريخياً تقليدياً لها، قد يطول شرحه؛ فعلى مدار التاريخ الحديث والمعاصر، كانت هناك صراعات وحروب بين روسيا والدول الأوروبية الكبرى. وكذلك اجتياحات عسكرية روسية لبعض بلدان أوروبا المجاورة لروسيا. كما أن كون غالبية الروس تعتنق المذهب المسيحي الأرثوذكسي جعل لروسيا تقاليد وحضارة مختلفة عن غالبية دول أوروبا وغالبيتها البروتستانتية. وساهم قيام «الشيوعية» الماركسية فيها، في الفترة 1917– 1991م، وهيمنتها على أوروبا الشرقية، في جعل روسيا في خصام مع «الديمقراطيات» الغربية، ورثته روسيا، رغم تخليها عن التوجه الشيوعي الماركسي، وتحولها لدولة وطنية ليبرالية.

وبعد انهيار حلف وارسو، وزوال الاتحاد السوفييتي، حذرت روسيا الكسيرة من توسع حلف «ناتو» شرقاً تجاه حدودها الغربية، فوعد الحلف -خاصة أثناء مفاوضات توحيد ألمانيا- بعدم التوسع شرقاً، «ولا بوصة واحدة». ولكنه نكث بهذا الوعد، واستغل ضعف روسيا، في المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، فتوسع شرقاً لآلاف الكيلومترات. وها هو يمعن في هذا التوسع، ويضم فنلندا والسويد. وعندما وقفت روسيا على قدميها بدأت تعارض هذا التوسع، بقوة وإصرار.

****

- الغرب (ناتو): وهو يناوئ روسيا، كما أشرنا، لأسباب أيديولوجية وتاريخية عميقة الجذور. وقد أعتبر روسيا مؤخراً، ورسمياً، من أكبر وأخطر ما يهدد الأمن القومي الغربي. وهذا الغرب، وزعيمته أمريكا، يرفض تطورات النظام العالمي الأخيرة، ويصر على إبقاء النظام العالمي أحادي القطبية، رغم تصاعد قوة ونفوذ كل من الصين وروسيا.

هذا الغرب (الكذوب) الذي عرفه العالم بأنه كتلة استغلالية عنصرية، وصهيونية في أحيان كثيرة، تهدف للسيطرة على العالم، وعلى مقدراته، وفرض سيادتها عليه. وهو الذي يدعي الحرص على الحرية، والديمقراطية... إلخ، ثم وعلى مسمع ومرأى من العالم، نراه يضرب هذه القيم خارج حدوده في مقتل، خاصة في المناطق التي له فيها «مصالح». هذا الغرب بعينه هو الذي يستفز روسيا، وكثيراً من بلدان العالم، بسياساته الاستغلالية والاستعمارية، والأنانية.

إن الغرب، بزعامة أمريكا، هو المسؤول الأول والأساسي عن نشوب هذه الحرب، وما ينجم عنها من تداعيات خطيرة. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، عام 1991م، بدأ يعمل على محاصرة روسيا، بهدف إضعافها، وتمزيقها. وتمدد حلفه (ناتو) شرقاً نحو روسيا، ليتمكن من الكيد لروسيا من جوارها المباشر. وينصب صواريخه، وجيوشه، على حدود روسيا، مشكلاً تهديداً فادحاً للأمن القومي الروسي. ولنا أن نتخيل ماذا كان الغرب (وزعيمته) سيفعل لو أن روسيا، أو أي دولة مناوئة أخرى، أقامت قواعد عسكرية قريبة من حدوده؟! عندئذ سيقيم الغرب الدنيا، ولا يقعدها. وكأن لسان حاله يقول: من حقي أن أتوسع، وأهدد، وليس من حق خصومي أن يعملوا الشيء نفسه! ونكمل حديثنا هذا في المقال القادم.