-A +A
نجيب عصام يماني
ظلّت حكمة ورشد القيادة السعودية، على مرّ الحقب والسّنوات؛ هما الضامن لاستمرار العلاقات بين حلفائها الإستراتيجيين؛ سواء في المحيط الإقليمي أو العالمي، متجاوزة بهما الأزمات التي تطرأ بين الفينة والأخرى، ملتزمة بالمعالجات البصيرة، بعيدًا عن الضجيج والانفعال، متسلحة بوعي يمتد إلى آفاق بعيدة، غير مرتبطة بالمنافع الآنية، بمقدار ما تؤسس لرؤية تنفذ عبر الزمن لترسم آفاق المستقبل الذي تتطلّع إليه، وتعرف الطريق إليه.وهي ذات الحكمة والرّشد الذي يجعل من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، أمرًا واقعًا في ميقاتها منتصف الشهر المقبل.

إنّ وعي المملكة بأهمية هذه العلاقة الإستراتيجية يحملها إلى «التغاضي» عن بعض الترّهات والسقطات، فها هي تقدّم لـ«بايدن» الدعوة بكل أريحية لزيارة المملكة في يوليو المقبل، آملة أن تعيد هذه الزيارة ترتيب العلاقات على إيقاع مراعاة المصالح المشتركة، والتزام أدبيات الدبلوماسية بين الدول وفق ما أسّست له ونصّت عليه مواثيق الأمم المتحدّة.. فلم يعد الواقع بكل متغيراته يسمح للولايات المتحدة الأمريكية أن تمارس دور «شرطي العالم»، وفرض هيمنتها بسلطان الأمر والنهي، والتغريب والترهيب، الذي ظل نهجها لعقود خلت، وهو دور لم يعد مقبولاً، ولم تعد المعطيات الآنية مساندة لتحقيقه ودفع محركاته باتجاه السيطرة والنفوذ المطلق.. على نحو ما تحاول بعض الدوائر الإعلامية المساندة لسياسة الحزب الديمقراطي أن تشي به، منذ إعلان ميقات الزيارة المرتقبة للمملكة.


وبعيدًا عن هذا الضجيج الإعلامي الأمريكي المستفز، الذي يسبق زيارة بايدن، فإن حاجة الولايات المتحدة إلى هذه الزيارة أكبر بكثير جدًّا من حاجة المملكة إليها، قياسًا على ما تمرّ به من أزمات اقتصادية تمظهرت في ارتفاع معدلات التضخم بنسب قياسية، وزيادة نسب البطالة، وركود أسواقها، والاختلال في أسواق النفط، بما ألقى بظلاله الكثيفة على اقتصادها، الأمر الذي يجعل من زيارتها إلى المملكة الخطوة الصحيحة نحو تدارك أزماتها، وعليها أن تعي جيدًا أن واقع المملكة اليوم غيره في كل الحقب الماضية، في ظل توجهاتها السديدة على إيقاع رؤية المملكة 2030، وتفجيرها لطاقاتها الكامنة، وتحرير اقتصادها من الارتهانات الأحادية السابقة، وانفتاح مجتمعها على آفاق جديدة، بما يجعل من الصورة النمطية القديمة عن المملكة - في أي مخيلة كانت - ضربًا من التخلّف، وعائقًا أمام فهم الواقع الذي تعيشه المملكة اليوم.. ولا يعني ذلك مطلقًا أن المملكة في غنى عن علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية؛ بل على العكس من ذلك تمامًا، فثمة قضايا تستوجب تعاونًا مشتركًا، ورؤية متسقة، وتحالفًا إستراتيجيًا بين البلدين، لتحقيق الغاية من المصالح المشتركة، وأول هذه القضايا الملف النووي الإيراني، والدور الأمريكي المنتظر في حله، بوصفها إحدى الركائز الأساسية في الاتفاق النووي السابق، ولاعبًا أساسيًا في ترتيبات الحل في الوضع الراهن، حسب مجريات المباحثات في جنيف، فبهذا الوضع يصبح التقارب السعودي الأمريكي ضرورة حتمية لبلورة رؤية مشتركة، بخاصة وأن المملكة لن تستأثر بزيارة «بايدن» لمناقشة العلاقات الثنائية؛ بل هيّأت الظروف لقمة خليجية مع الرئيس الأمريكي، بالإضافة إلى مشاركة بعض القيادات العربية، بما يعني بداهة أن الزيارة ستكون مرتكزًا مهمًا لمناقشة قضايا الشرق الأوسط، ومن بينها قضية فلسطين، فضلاً عن القضايا الإقليمية، وأمن المنطقة المهدد بالمد الصفوي وأذرعه في اليمن عبر مليشيا الحوثي الإرهابية، وحزب الله الإرهابي في لبنان، وغيرهما من بؤر العمالة والارتزاق.

بمثل ما نعي جيدًا أن الحزب الديمقراطي يعتمد كثيرًا على مخرجات هذه الزيارة في تحسين موقفه الانتخابي، وإقناع الناخب الأمريكي في التجديد لقيادات حزبه في مجلسي الشيوخ والكونغرس، وتجاوز الأزمات الاقتصادية التي يمر بها، فإننا في المقابل نتطلع أن تعي الإدارة الأمريكية أنها تتعامل مع دولة ذات ثقل سياسي واقتصادي لا يمكن تجاوزه، وقيادته قمينة وجديرة بخطاب يراعي هذه المكانة، ويستند في مخاطباته إلى مستويات رفيعة من اللغة الدبلوماسية والكياسة، وأن تبقى مراعاة المصالح المشتركة هي القاعدة الأساسية، والنقطة التي عليها مدار العلاقة، ومتى اختلّ هذا الميزان، فلا أقلّ من الإشارة إلى أن بوصلة المصالح السعودية ستتجه نحو أقطاب جديدة تتطلّع إلى تمتين العلاقات، وتسعى إلى الاستفادة المشتركة من فرص الاستثمار الكبيرة التي باتت توفرها المملكة في ظل رؤيتها المباركة والطموحة.