-A +A
بشرى فيصل السباعي
لا يوجد أمر ليس له معنى ودلالة جوهرية.. والتأمل والتفكر فيها هو ما يجعل الإنسان مفكرا وفيلسوفا وصاحب بصيرة نافذة، وعلى سبيل المثال من يطالع تصاميم قاعات المحاكم بالشرق والغرب سيلاحظ فارقا أساسيا، وهو أن جميع قاعات المحاكم بالغرب ليس فيها قفص كلي أو جزئي يوضع فيه المتهم إنما يجلس المتهم بجوار محاميه على كرسي دون قفص ولا قيد، بينما بالشرق المحاكم فيها قفص كلي أو جزئي يوضع فيه المتهم وتبقى عليه القيود خلال المحاكمة وغالبا لا تكون كالقيود الغربية باليدين فقط. فما هو المعنى والدلالة العميقة في هذا الفارق بين الشرق والغرب؟ بالواقع يمكن استخلاص كامل منظومة منظور الشرق والغرب للإنسان فقط من خلال هذا الأمر؛ فكون المتهم مهما كانت بشاعة جرائمه يجلس على كرسي بجوار محاميه وغير مقيد ناتج عن مسلمات توقع وافتراض في الغرب بأن يتصرف الإنسان بشكل متحضر أي يضبط نفسه على الأنماط السلوكية المناسبة بالمحكمة وإن كان مجرما، بينما بالشرق النظرية السائدة عن الإنسان سلبية وتراه على أنه مجموعة من الغرائز الجامحة الهمجية المنحطة والخطيرة، وإن لم يقيد بأنواع القيود فمهما كان صلاحه فهو سيتصرف بأنماط «منفلتة»؛ ولذا بالشرق يوضع أمام مكاتب الاستقبال حواجز لها فتحة ضيقة صغيرة غير مريحة للمراجعين تضطرهم لحني الرأس ليمكنهم التحدث بشكل واضح للموظف خلفها، ولذا تولد شعور بالصغار والإهانة، فالتوقع خلف هذا الحاجز هو أن الناس همج وسيهاجمون الموظفين إن لم يوضع حاجز لحماية الموظفين، بينما لا يوجد شيء مماثل بالغرب؛ لأن النظرية السائدة لديهم هو افتراض وتوقع أن يتصرف المراجعون كأناس متحضرين يضبطون أنفسهم ذاتيا؛ ولذا لا حاجة لحماية الموظفين منهم بالحواجز كأنهم يتعاملون مع حيوانات مفترسة يخافون أن تفترسهم أثناء تقديمهم الطعام لها. والسؤال البديهي: لماذا الغرب يفترض أن الإنسان سيتصرف بشكل متحضر منضبط ومناسب وإن كان مجرما، بينما الشرق يفترض أن حتى المواطن الصالح سيتصرف بشكل همجي إن لم يوضع خلف حواجز وقيود؟ السبب: هو الفارق بين المنظور القديم للإنسان الموروث من ما قبل عصر التحضر الحديث ولا يزال مهيمنا بالشرق بسبب اعتبار الثبات على العقلية القديمة التقليدية فضيلة، وبين المنظور الحديث للإنسان الذي تولد من واقع العالم المتحضر الحديث والسائد بالغرب- مع العلم أنه حسب الإحصاءات العالمية فغالب دول الشرق نسب الجريمة فيها أقل من بعض دول الغرب كأمريكا وبريطانيا- وهذا أيضاً سبب العيوب الجذرية التي تحكم معاملة الفئات المستضعفة المظلومة والمضطهدة بالشرق كالنساء والأطفال والعمالة حيث تقول النظرية البدائية: إن عدم معاملة تلك الفئات بشكل تسلطي قمعي عنيف ماديا ومعنويا يفسد أخلاقهم ويجعلهم يتمردون وتمردهم يؤدي للفساد العام؛ لذا ما زالت لا توجد جدية بالشرق لحماية هذه الفئات بعكس الغرب الذي شدد وضاعف العقوبات على التعرض لها؛ لأن هناك ميلاً غرائزياً لاضطهادها، وهناك نظرية بعلم النفس والاجتماع تسمى نظرية «أثر التوقع» أجرى عليها العلماء العديد من التجارب الاجتماعية واسعة النطاق بالإضافة للدراسات الإحصائية، وتوصلت لأن التوقعات السلبية سواء أكانت موجهة بشكل شخصي ضد فرد أو فئة معينة فهي تؤدي بالفعل لخلق ميل لتحقيق تلك التوقعات وأبرزها كانت النتائج الأكاديمية حيث أثبتت التجارب أن مجرد التوقعات المباشرة أو غير المباشرة للبيئة التعليمية بأن تحقق فئة ما نتائج أفضل أو أسوأ يجعلهم بالفعل يحققون تلك التوقعات بشكل لا واعٍ، ولما تم تغيير ذلك الخطاب انقلبت نتائج الطلاب تبعا لها، ولذا أمكن زيادة مستوى التحصيل الأكاديمي لفئات كان هناك خطاب نمطي سلبي حولها بأنها أقل ذكاء وقدرة عقلية من غيرها على التخصصات المعقدة كالرياضيات والهندسة بمجرد إخبار تلك الفئات أن هناك دراسات وإحصاءات تثبت أنهم أكثر ذكاء وتفوقا فيها فأصبحوا بالفعل أكثر تفوقا، بينما قبل التجربة كانوا أقل تفوقا لأن التوقع النمطي عنهم كان أنهم أقل تفوقا؛ ولذا النظرية التي تتم معاملة الإنسان بالشرق أو الغرب على أساسها تخلق لديه ميولا باتجاه تحقيقها؛ ولذا إن حصلت سلوكيات همجية من الإنسان بالشرق أكثر من الغرب فهذا لأن النظرية المتحكمة بمعاملته قائمة على توقع أن هذا نمط سلوكه المفترض، فالتوقع أشبه ببرمجة جماعية؛ ولذا لجعل الإنسان أفضل في الشرق خصوصاً لجهة إيقاف الحروب والإرهاب والتحرش يجب أن تتغير البرمجة الجماعية أي النظرة إلى الانسان وكل ما يعبر عنها من تفاصيل الواقع، والحديث النبوي نص على هذه الحقيقة؛ ولذا نمط إنشاء جهاز يفتش عن مدى تدين وفضيلة الناس مخالف لتوجيهات النبي «إنك إن اتبعت عورات الناس، -أي: فتشت للتحقق من شأنهم الخاص- أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم» (أبو داود وصححه الألباني). ولم يقل النبي إن التفتيش بالشؤون الخاصة للناس يجعلهم أكثر فضيلة وتديناً إنما قال إنه يفسدهم.