-A +A
صدقة بن يحيى فاضــل
كشفت حرب روسيا الحالية ضد أوكرانيا الكثير من الأمور التي كان مسكوتا عنها، أو متجاهلة، أو سرية. من ذلك، حقيقة التوجه العام لحكومات الغرب المتنفذ. ولجوء معظم هذه الحكومات إلى الغدر، والتآمر، وخرق كل حقوق الإنسان، وخدمة مصالح خاصة ضيقة، والتضحية بأرواح ومصائر بعض الشعوب، دون مبرر. إضافة إلى النظرة العنصرية والاستعلائية، والاستغلالية للشعوب «الملونة» (غير الشقراء). لقد دفع الغرب المتنفذ روسيا دفعا لغزو أوكرانيا؛ وهذا الغزو يعتبر عدوانا فاضحا على دولة مستقلة، وذات سيادة، ويجب استنكاره. ولكن تحليل دوافع روسيا للإقدام على هذه الهجمة، يؤكد، دون أدنى شك، خبث وتآمر الغرب المتنفذ... الذي «اضطر» روسيا للقيام بهذا الهجوم، دفعا لخطر فادح محتمل.

فالغرب المتنفذ نكث بوعوده، وتعهداته، بعدم توسع حلفه (ناتو) شرقا. استغل انشغال روسيا في مشاكلها الداخلية، فتوسع إلى حدودها الغربية. وضم دولا متاخمة لروسيا، واضعاً بعض قواته وصواريخه قريبا من البر الروسي. وعندما قويت روسيا، تنبهت لهذا الاقتراب سيئ المقصد، وبدأت تدعو لوقفه. ولكن الغرب المتنفذ استمر في التوسع شرقا، غير مبال بالمخاوف الأمنية الروسية، وغيرها. فقرر ضم أوكرانيا للناتو؛ وهي الدولة الألصق بروسيا. عمل ذلك، رغم وجود نسبة كبيرة من الأوكرانيين تميل لروسيا، ورغم تحذير روسيا بعدم ضم أوكرانيا للناتو، لأن ذلك يهدد أمنها القومي، لدرجة خطيرة جدا.


ولكن الغرب المتنفذ أخذ يتدخل في الشؤون الداخلية لأوكرانيا، وبشكل سافر، أحيانا. وساهم في وصول حكومة زيلينيسكي، الموالية له، إلى السلطة. وأقيمت في أوكرانيا مصانع سرية للأسلحة البيولوجية والكيميائية، وبذل جهدا محموما لتهيئة أوكرانيا لعضوية الناتو. وفي ذات الوقت جمدت أمريكا اتفاقية عدم نشر الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في شرق ووسط أوروبا. وكانت روسيا تراقب هذا الوضع بقلق، وغضب شديد. ثم اندفعت لغزو أوكرانيا ابتداء من يوم 4 فبراير 2022م.

ومعروف أن الولايات المتحدة تعارض بشدة تنامي العلاقات الاقتصادية بين روسيا وأوروبا. وكان إنشاء خط «نورد ستروم 2»، الذي ينقل النفط والغاز الروسي إلى ألمانيا، وبعض الدول الأوروبية الأخرى، نذيرا بتوثيق العلاقات الروسية – الألمانية بخاصة. لذا، أصبح وقف هذا الخط، والشروع في وقف كافة موارد الطاقة الروسية إلى أوروبا، إحدى «مزايا» غزو روسيا لأوكرانيا. دُمرت أوكرانيا، هذه الدولة الكبيرة والمتقدمة، نتيجة لخبث الغرب المتنفذ، وتآمره، وغباء وتخبط حكومتها العميلة. إضافة إلى قسوة الروس، وشراسة رد فعلهم.

****

وأوكرانيا الأوروبية ليست أول ولا آخر دولة تذهب ضحية للغدر والمؤامرات. ونذكر بأن هناك دولا وشعوبا، بالمنطقة العربية، ما زالت تعاني الأمرين، من عدم الاستقرار، والاضطراب، والاحتلال، والتشرد. إن مآسي كل من: فلسطين، سوريا، العراق، الصومال، السودان، ليبيا، وغيرها، لا تخلو من «أصابع» للغرب المتنفذ، الذي، وإن لم ينشئ بعضها، فإنه يسهم، وبفعالية، في تفاقم هذه المآسي. وتعتبر مأساة الشعب العربي الفلسطيني الحالية، التي أوشكت أن تكمل على التوالي ثلاثة أرباع القرن، أسوأ مأساة إنسانية يتعرض لها أي شعب في العصر الحالي. إنها كارثة... لحقت بهذا الشعب الكريم، دون ذنب اقترفه، سوى أنه يريد أن يعيش في بلده وأرضه، حراً كريماً، كما بقية شعوب العالم. حيث جيء بعصابات من شتى بقاع العالم، لتستولي على أرضه، وتقتلع غالبية أبنائه من بيوتهم وممتلكاتهم، لينهبها هؤلاء الغزاة، بحجج هي أوهى من خيوط العنكبوت. إنها كارثة إنسانية كبرى.... أحاقت بهذا القطر العربي، وبالأمة العربية بأسرها. فكم يعاني الفلسطينيون من جرائم الاحتلال الصهيوني، وتنكيله بأبناء هذا الشعب. وتعاني المنطقة من تطلع الكيان الصهيوني للهيمنة، واحتلال المزيد من الأراضي العربية.

ودُمر العراق، تدميرا منهجيا مقصودا، بناء على أكاذيب ملفقة، وادعاءات مغرضة كاذبة، كانت الصهيونية الدافع لها، كما تبين لاحقا. وفي سوريا، واجه النظام المطالب السلمية المشروعة لغالبية الشعب السوري بالقوة والقمع والتنكيل. فاشتعلت ثورة شعبية شاملة في كل سوريا... وخلطت الأوراق من قبل النظام السوري، وبعض القوى الإقليمية (إيران، وإسرائيل بخاصة) والقوى الغربية المتنفذة، إضافة إلى روسيا. والنتيجة هي: التنكيل بالشعب السوري، وتدمير بلاده.

****

ومع كل ذلك، تظل الدنيا، أو جزء منها، بخير. فما زلنا نرى أن كثيراً من شعوب الدول الغربية تقف مع الحق، حتى عكس حكوماتها، ولا تقبل أي إجرام يرتكب باسمها. وإن عرفت به استنكرته. ذلك سلوك إنساني نبيل، يحسب لهذه الشعوب الطيبة. ولكن، ومع الإشادة بهذه الشعوب، يجب أن نتذكر أن أغلب حكومات الغرب المتنفذ هي المسؤول (غير المباشر) عما حدث بأوكرانيا، وغيرها من الدول التي مرت (وتمر) بمآس مشابهة. إذ يمكننا القول إن تلك الحكومات أسهمت -أيما إسهام- في خلق تلك المآسي ابتداء، أو ساهمت في تفاقمها لاحقا، بالتخاذل المقصود، وتجاهل معاناة الشعوب... بل والتعتيم أحيانا على هذه المعاناة.... بهدف تحقيق «مصالح» لها، أو نفوذ هنا، أو هناك. وهذه السياسة الانتهازية متواصلة، حتى يردعها رادع.

ومن الأمثلة، التي لا تحصى عن هذه السياسة، نذكر أن معظم حكومات الغرب المتنفذ تعارض «إصلاح» الأمم المتحدة، ومن ذلك إقامة «جهاز» متخصص فيها، يضمن نزاهة الانتخابات، وبخاصة في الدول النامية، ويحول دون قيام أنظمة مستبدة، تسوم شعوبها سوء العذاب. يعارضون ذلك، ويتباكون على ما تعاني منه بعض الشعوب من استبداد وقهر.... ولكن، طالما كان ذلك القهر يصب في ما يعتبرونه مصالح لهم، فليكن... ولتذهب المشاعر والاعتبارات الإنسانية، و«حقوق الإنسان»، للجحيم. إنها حكومات انتهازية، رغم طيبة بعض شعوبها.