-A +A
عبدالله بن بخيت
من حسن الحظ أن انتهيت من كتابة ونشر روايتي الدحو قبل أن أزور سجن المباحث مع بعض من الأصدقاء المثقفين، فالسجن في خيالي وكما نرى في وسائل الإعلام مكان لعزل السجين بعيداً عن المجتمع حتى يصلح حاله أو يتعفن في زنزانته. عندما نقول يتعفن فهو في الحقيقة عزل واحتقار لا مكان فيه للإصلاح واحترام إنسانيته وتدريبه ليصبح يوماً عضواً في المجتمع. ثمة فرق بين السجن الذي جاد به خيالي في الرواية وبين سجن المباحث.

المسافة بين سجن المباحث في الرياض وبين المفهوم السائد عن السجون واسعة. إذا كان معظم نزلاء سجن رواية الدحو مجرمين فنزلاء سجن المباحث مجرمون وضحايا. اقترافهم جرائمهم قام على فكر أعمى بصائرهم. مع الأسف ليسوا وحيدين في هذا الفكر. ثمة ناس بسطاء يؤيدونهم، أو يؤمنون بشق من ادعاءاتهم. هؤلاء وهؤلاء ضحايا لتطور خاطئ في مفهوم الدين تم تكريسه في سنوات مديدة. أعمالهم الإجرامية لم تكن لمصالح شخصية أو لتحقيق مكاسب أو لأسباب سيكوباثية بل أساسها التضحية الزائفة. زرعها في نفوسهم بعض ممن يعتلون المنابر في بيوت الله. دفعوهم للإضرار بوطنهم أو ذهبوا بهم إلى أماكن الصراع دون رجاء العودة منتصرين. يفجرون أنفسهم ليضمنوا لأنفسهم مكاناً في الجنة. قلما جاد التاريخ ببشر يرون أن موتهم في المعركة هو المطمع والهدف الأسمى. لا يوجد نصر أو حتى نصر جزئي كما يحدث في المعارك التي يخوضها الأسوياء. يرتكبون جرائمهم لتحقيق مصلحة مَن برمجهم، حيث عاشوا تحت مظلة من الوعود الطوباوية المستحيلة التي لا يدركها مريدها إلا بالموت. لا يدركون الدور الذي يلعبون فيه دور المجاهدين فتميزوا بشجاعة انتحارية بعد أن أزال الدعاة من قلوبهم حب الحياة الفطري بآلية الوعود فذهبوا يبحثون عن معارك ضمانات الموت فيها مؤكدة. لماذا ينتصر أصلاً طالما أن النصر سيحرمه من الشهادة ويؤخر لقاءه بحور العين. هذا التعقيد في جرائم النزلاء جعل سجن المباحث نزلاً أوسع من مجرد مكان لقضاء محكومية، فما شاهدته وشاهده زملائي في سجن المباحث محاولة جادة لإعادة ترميم الإنسان المحطم في دواخلهم. انتزاع الأوهام كانتزاع الشوك لا يتم بالمناصحة وجميل الكلام فحسب. الإقناع بالعمل والنجاح والمنافسة والتعاون وإضاءة طريق الخير تحت أقدامهم. ستشاهد مجموعة كبيرة من النزلاء يقضون أيامهم كأنما يقضونها في عالم الأسوياء. كل سجين يتجه نحو نزعاته الفطرية عبر الأنشطة التي تضعه في طريق إنسانيته حتى إذا خرج وعاد إلى المجتمع يكون مستعداً فيه للبناء والنجاح والحب والفن دون المساس بصحيح دينه.


أسّست إدارة السجن شركة يتعاون فيها أعضاؤها ضمن برنامج شامل أسموه إدارة الوقت. كل نزيل يعمل في اختصاصه أو هوايته التي كان عليها في أيامه الأولى قبل أن تلتقطه أيادي الشر وتزيحه من طريق الأسوياء. ثمة شباب بين النزلاء اكتشفوا مواهب مدفونة في دواخلهم في السجن بعد أن دفعتهم الإصلاحية نحوها برفق. شاهدنا فرقة فنية ومرسماً مليئاً باللوحات الفنية رسمها فنانون من النزلاء، وطباخين مهرة، ومبرمجين، ومحاسبين. النصر على هؤلاء وإحضارهم لمواجهة العدالة خطوة في طريق أشق وأصعب. فالإنسان مهما بلغ به الانحراف يبقى في داخله شيء من إنسانيته يمكن من خلالها إعادة بنائه إذا وجد من يمدّ له يد العون. هذا ما لمسته ولمسه أصدقائي في سجن المباحث. علينا أن نعمل جميعاً على تحقيق العدالة وألا نكف عن السعي لإعادة الخاطئين إلى أهاليهم وأحبابهم والمجتمع بشراً أنقياء.