-A +A
عبدالله بن بخيت
عندما كنا صغاراً كان للخبز قيمة تكاد تصل حد القداسة. عندما تقع منه قطعة صغيرة يلتقطها المرء ويقبلها ثم يلمس بها جبهته ويرفعها في مكان يليق بجلالها واحترامها. الخبز هو رمز الطعام الإنساني. يسمى في بلاد عربية كثيرة (عيش). كلمة العيش لها أبعاد مرتبطة بالبقاء في الوجود والغنى والفقر، ويعد إنتاجه اليوم واحداً من أهم الاحتياجات الإنسانية. مادة لا غني عنها عند البشر منذ وعى الإنسان حقيقة وجوده.

فقد الخبز في ثقافتنا الحديثة قيمته الأخلاقية والاقتصادية. نأكل فول ونأكل مرق ونأكل جبن ونأكل شاورما ونأكل عدداً كبيراً من الأصناف مع الخبز دون ذكر الخبز كمادة أساسية، وكأن الخبز مجرد وعاء نلف فيه الأكل أو مغرفة نخرج بها الأكل من الصحن لكي لا تتلوث أصابعنا. تذهب إلى مطعم شعبي لتناول وجبة فول. يقدم لك المطعم بادية فول صغيرة ويرفقها بنصف قرص تميس ولك أن تطلب ما تشاء من زيادة في الخبز ولك أن تترك منها ما تشاء ليلقى بها في برميل القمامة، وإذا طلبت من أي مطعم شرقي لبناني سوري سعودي تركي مشوي لفرد واحد فسوف تحصل على كمية خبز بشكل تلقائي تكفي لإشباع أكثر من أربعة أشخاص، أما إذا جاء مصحوباً بالحمص والمتبل والتبولة فسوف تحصل على خبز يكفي حفلة. بالإضافة إلى الخبز المهدر مع المشوي ستلاحظ أنه تحول إلى مجرد غلاف أو ديكور. خبزة كاملة تحت المشوي وخبزة فوقه، خبزتان لا يأكلهما أحد. ولو طلبت زيادة في الخبز من أي مطعم لحصلت على أي كمية تريد. بناء على حسابات صاحب المطعم من الواضح أنه يحصل على الخبز مجاناً أو قريباً من المجاني. السبب في ظني الدعم الحكومي من جهة والتسيب الاقتصادي عند الناس والضعف الأخلاقي.


مع الأسف لم يعد الخبز يحظى بكلمة (نعمة الله) التي تربينا عليها. تخلى الناس عن هذا البعد الأخلاقي الذي يحيط بالأكل بصفة عامة. وصلنا إلى ما كان يسميه الناس البطر. كل منا يستطيع أن يحصي كمية الخبز المهدر في بيته وفي المطاعم وفي العزائم والولائم والحفلات. من الصعب أن تجد من ينظر للخبز نظرة ذات قيمة اقتصادية أو أخلاقية لأنه على المستوى العملي والواقع يوزع مجاناً، وأي مادة مجانية ستنتهي قيمها المختلفة وتصبح مبتذلة. لا أعلم كيف انحدر الخبز في حياتنا إلى هذا المستوى ومن أي الثقافات جاءنا هذا البطر. في بلاد الغرب لا يعطي الخبز بهذه الطريقة وإذا ترافق الخبز مع الوجبة ستلاحظ أن كميته محدودة تتناسب مع كمية الوجبة الرئيسية. خذ مثلاً الخبز مع الهامبورغر. تلتهم الخبزة مع اللحمة بالكامل. في المقابل انظر إلى مطاعم البروستد التي يديرها العرب: ستلاحظ أن كمية الخبز المصاحبة تتجاوز كمية الدجاج. حتماً سوف تترك كمية كبيرة منه تذهب إلى برميل القمامة. اتضح لي ان إهدار الخبز وابتذاله مرتبط بالثقافة العربية فقط؛ اللبنانيون السعوديون السوريون ثم الأتراك.

حان الوقت للتدخل كي نضع حدّاً لهذه الممارسات المنافية للأخلاق النبيلة. ما الذي يعنيه أن نتباكى عندما نرى الجوع يتفشى بين الفقراء واللاجئين ونحن نلقي بأكثر من نصف القمح الذي نستورده في براميل القمامة. من يتحمل مسؤولية هذا الهدر. البلدية وزارة التجارة أو المستهلك نفسه. حان الوقت أن نرفع من قيمة الخبز ليعود كما كان. نعمة من الله تستحق الاحترام.