-A +A
سعد الصويان
بعد انحسار النفوذ العباسي من جزيرة العرب نشأت فيها كيانات عدة متصارعة قبل قيام الدولة السعودية، كالأشراف في الحجاز والعريعر في الأحساء ودويلات أخرى اقتصرت سلطتها على مدينة المقر مثل الرياض تحت حكم ابن دواس والعيينة تحت حكم ابن معمر، وغيرها. لم تكن لهذه الكيانات والدويلات رؤية في الحكم أو السلطة سوى السيطرة وجباية الضرائب والزكوات. طالما وصلتها هذه الجبايات فإنها تترك كل مدينة وشأنها فيما يخص تدبّر أمورها الداخلية والإدارية. وحينما تهب الدولة للدفاع عن هذه المدينة أو تلك فإنها لا تدافع عنها من واقع المسؤولية تجاهها وإنما من واقع الدفاع عنها كجزء من ممتلكاتها الخاصة، وكانت تتعامل مع أهل الأطراف كأتباع لا لهم ولكن عليهم، أي لا كمواطنين لهم حقوق وإنما كأتباع عليهم تبعات.

لم يكن الوضع كذلك بالنسبة للدولة السعودية. كان لدى آل سعود تصور كلي وعضوي للمنطقة. لقد أدركوا أنه لا يمكن أن يتحقق الاستقرار والازدهار إلا إذا كان شاملاً للمنطقة ككل. هذا هو السبيل الوحيد، في نظرهم، نحو بناء دولة راسخة الأركان تضمن الأمن والرفاه لمواطنيها. ليس هدف الحكم، في نظرهم، جباية الضرائب وإنما غرس روح المواطنة والانتماء وتشكيل سلطة مركزية شاملة تستأثر بولاء المواطن، بدلاً من الولاءات الجزئية المتشرذمة. كذلك المناصب الإدارية وقيادة الجيوش لم تكن حكراً على منطقة دون أخرى حيث إن الكثير من القادة في السعودية الأولى والثانية جاءوا من الأطراف، لكن قيادة الجيش كانت قيادة واحدة تقع عليها مسؤولية الدفاع عن جميع أرجاء البلاد. فلقد استوعب آل سعود دروس التاريخ واستفادوا من التجارب السابقة وأدركوا أن الحكم لا يستقيم بالولاءات الظرفية أو تلك التي تقوم على استنزاف الموارد المحلية. تقاسم الثروات عندهم لا يقوم على مفهوم الاستئثار بالثروة والسلطة أو مفهوم المركز والأطراف. كذلك الحال بالنسبة للبناء والإعمار وتثبيت الأمن والاستقرار. فالمركز ليس مهمته جباية الضرائب لأجل الاستئثار بها وإنما لإعادة توزيعها بما يصب في تحسين ظروف المواطنين في جميع ربوع الدولة. كان الحكم بهذا المفهوم ليس نزعة سلطوية بقدر ما كان مسؤولية أخلاقية تسيّرها النوازع الإنسانية.


الملحظ الآخر لطبيعة الحكم السعودي أن القضاء فيه لم يكن قضاءً عشائرياً تتحكم فيه السوادي والسوابق والسلوم التي تتمايز من منطقة لأخرى ومن قبيلة لقبيلة، بل كان حكماً يسري فيه القانون على الجميع ويطبق بالسواسية على الحاكم والمحكوم. كانت الرسالة الأسمى للدولة هو تحقيق الأمن والأمان لجميع المناطق التي تقع تحت سيطرة الحاكم وتستظل بظل سلطته. إذ لا يوجد في السعودية أطراف، بل كلها قلب تنبض شرايينه بالنماء والرخاء.

هكذا كان الحكم السعودي لا ينحصر في فرض السلطة ومد النفوذ، وإنما ما يترتب على ذلك من مسؤوليات أخلاقية على الحاكم تجاه المحكوم. وليس عندي تشخيص لطبيعة الحكم السعودي وفلسفته أفضل من القصيدة التي بعث بها الإمام تركي بن عبدالله لابن عمه مشاري الذي كان حينها يقيم إقامة جبرية في مصر. يؤكد الإمام تركي أن هدفه هو توحيد البلاد وحمايتها وتثبيت الأمن وحكم القانون ونشر العلم بقوله:

حصّنت نجدٍ عِقِب ما هي تْطَرّا مصيونةٍ عن حر لفح الذواريونزلتها غصبٍ بخيرٍ وشرّا ‏ وجمعت شملٍ بالقرايا وقاريوالشرع فيها قد مشى واستمرا ‏ ويقرا بنا درس الضحى كل قاري

زال الغوى والغي عنها وفَرّا ويقضي بها القاضي بليّا مصاريما سلت عن من قال لي لا تزرّا ‏ نجدٍ غدت بابٍ بْليّا سواريولعل خير مشهد يمثل ارتباط آل سعود العاطفي بالجزيرة العربية وأهلها هو ذلك الموقف المتوتر والمؤثر بين الملك عبدالعزيز ووالده عبدالرحمن حينما عزم عبدالعزيز على مغادرة الكويت والذهاب لتحرير الرياض وبقية المنطقة بعدما ضجت المنطقة بالشكاوى والتظلمات من بطش عبدالعزيز الجنازة بهم. ما دفع الملك عبدالعزيز على الانطلاق من الكويت لتحرير البلاد ليس التعطش إلى السلطة وإنما هو ما بلغه من انتشار الفوضى والانفلات الأمني. لهذا السبب جاءته الوفود لتحضّه على العودة وترسيخ الأمن.

ملحمة استعادة تركي بن عبدالله للدولة السعودية في دورها الثاني وملحمة استعادة عبدالعزيز بن عبدالرحمن للدولة السعودية في طورها الحالي أكبر شواهد على جسامة التضحيات التي أثبت أفراد هذه الأسرة مدى استعدادهم لبذلها في سبيل الحفاظ على وحدة واستقلالية وعزة هذا الوطن. ولست بحاجة لتذكير القارئ بعدد الشهداء من أسرة آل سعود الذين سقطوا في معارك التوحيد أو الذين سقطوا في معارك الدفاع ضد الغزو العثماني. ولعل أفضل تعبير عن الارتباط العاطفي بين السعودية وآل سعود قول الشاعر:

عشقةٍ للسعود من الله انشاها ‏ حرّمت غيرهم تقول ما لي به