-A +A
منى المالكي
الأدب هو المحاولة المستمرة الدائمة للفهم وإعادة بناء الوعي بحسب القاعدة الذهبية التي وضعها ابن خلدون في مقدمته عندما كتب «ينبغي علينا إعمال العقل في الخبر التاريخي»، والخبر التاريخي هنا مثال، فإعادة بناء التاريخ على النحو الذي يؤسس لوعي حقيقي بهذا التاريخ هي من مهمات الأدب، وهنا يبرز دور المبدع الذي يتحرك بخياله وشخوصه حول هذه الواقعة أو تلك لكي يزيدها حضوراً في الأذهان، لأن إدراكنا للوقائع المعاصرة والحياة المعيشية يتم وفقاً لوعينا التاريخي، وتكمن المشكلة في أن البعض يتوهم أن التاريخ والأدب لا يلتقيان، ولكننا نجد حضور التاريخ ملهماً في بعض الأعمال الأدبية مع الالتزام بالحقائق التاريخية، ولكن التزام ذلك الأديب مختلف، فهو يذهب إلى تلك المناطق المنسية من ذلك الجزء من التاريخ الذي لم يكتبه المؤرخون، فرسم الملامح الفردية للبشر، أفراحهم، آلامهم، أحزانهم، آمالهم وطموحاتهم، فأنسن التاريخ وأعاد إليه الحياة، ووشم الحضور الأبدي لتجارب البسطاء والفقراء والمهزومين والمقهورين الذين لم يدون التاريخ حكاياتهم ولم يسجلهم في دفاتره الضاربة في عمق الزمن.

في رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية» مثلاً نقرأ تاريخ تلك المرحلة وقد استحضر الروائي إبراهيم عبدالمجيد تلك الحقبة الزمانية ومزج بين ما هو تاريخي وما هو درامي، في محاولة منه لاستحضار روح العصر وكأنه كان يعيش تلك الفترة، مع التزامه بالأحداث التاريخية ولكنه وقف مفسراً ومحللاً لتلك الأحداث التاريخية، فإذا تناول الروائي أسماء أعلام وحوادث حقيقية، فهو ملزم بألا يبعد عن الحقيقة، وأما غير ذلك فالأديب حر في ابتداع الشخصيات التي يراها. فالمبدع يكتب ما يسمى بالتاريخ الموازي الذي يجب عليه أن يكون على وعي تام بالفترات التاريخية، ويستعين بالعديد من المراجع والوثائق التاريخية لينسج أحداث روايته فلا يمكن السماح بكتابة التاريخ المضاد على إطلاقه، لأن هناك حقائق تاريخية تشكل الوعي الجمعي لا يمكن المساس بها، يجب على الروائي أن يلتزم الدقة حتى لا يتسبب في تزييف التاريخ وخصوصاً أن الرواية مقروءة أكثر من كتب التاريخ، فنجيب محفوظ مثلاً كتب الرواية التاريخية بدقة، خصوصاً «الثلاثية وحديث الصباح والمساء»، فالقارئ يأخذ من روايات نجيب محفوظ عندما يريد معرفة تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي في تلك الفترة، لأنها اشتملت على معلومات ليست موجودة في الكتب التاريخية، كما أن كلاً من توفيق الحكيم في «عودة الروح» وجمال الغيطاني في «الزيني بركات» كتب روايات تاريخية تفيد الباحث أيضاً في تلك المراحل من تاريخ مصر.


هذا الوعي الكتابي الذي نحتاجه كثيراً في كتابة أعمال أدبية توثق لمرحلة نحتفل بها وهي مرحلة «التأسيس»، تلك المرحلة الضاربة في أعماق التاريخ بيننا وبينها الكثير من المسارات المليئة بالكتابة والبحث والتدقيق، فالكتابة عن تلك المرحلة تنضوي تحت نوع كتابي خاص له صفاته وسماته الخاصة وهي «الرواية التاريخية» التي تعيش في حالة انحسار في الكتابة المعاصرة، والسبب يعود إلى أن الروائيين يفضلون كتابة السيرة الذاتية أو الرواية الاجتماعية، أما الرواية التاريخية فتتطلب جهداً وتفرغاً ومادة جيدة ومعايشة لأحداث الماضي لاستخلاص الجو التاريخي الذي يريد كتابته، وهذا يتطلب وقتاً أكبر من الرواية الاجتماعية، ولكن توثيق مرحلة «التأسيس» إبداعياً وتحويلها لمنتجات معرفية ثقافية مثل أفلام تسجيلية أو سينمائية أو مسرحية هي مهمة وطنية لا بد من النظر لها وتشجيع الكتابة الإبداعية حولها.