-A +A
منى المالكي
تقول الكاتبة والناقدة اللّبنانيّة يُسرى مقدّم في عملها السِّيَر ذاتي «صباح الخامس والعشرين من شهر ديسمبر»، والذي تمحور هذا العمل الإبداعي حول مفهوم الأمومة فى مجتمعاتنا وما يفضي إليه من صراع مع الذّات والآخر «قد تكون الأمومة لتمرينَ التطبيعيّ الأشدّ فاعليّة وتأثيرا في تطويع النساء الأُمّهات واستدراجهنّ إلى «قفص الطاعة» صاغرات، قانعات، أو ربّما قانطات»، فأيّ مقاومة لعدم دخول هذا القفص تُعتبَر حتّى من طرف الأبناء نكرانا لهم أو جفاءً أو أنانيّة. ومهما اختلفت الأجيال، فالأبناء ُطالبون بنمط الأمّ «الأزليّة»، المُضحّية من دون حدود.

هذا الصراع الذي تعيشه المرأة العاملة يكون أكثر وضوحا وإحساسا بالخوف لدى المبدعة التي سوف تقتنص «الأمومة» أجزاء أكبر من حياتها لتقضي على وقود الإبداع! وهذا ما ظهر في رواية اليف شافاق «حليب أسود» التي لم تكتف بأنها تعيش لوحدها هذا الصراع، بل ذهبت إلى تقديم نماذج نسائية أخذت فصولا في روايتها للتعريف بمعاناتهن في ثنائية «الأمومة والإبداع» مثل: بيرل باك، سيلفيا بلاث، أداليت أغا اوغلو، فيرجينيا وولف، مورييل سبارك، أناييس نين، ميري آن ايفانس (جورج اليوت)، سيمون دي بوفوار وغيرهن. وليس هذا فحسب، بل تطرقت أيضاً إلى حياة بعض زوجات الكتاب مثل: صوفيا، زوجة ليو تولستوي، وفرقت بين وجهة نظرهن من حيث فكرة «الأمومة» و«الرؤية النسوية feminist» لخلق شيء من التوازن العقلاني.


إن الإبداع قرين لحظة اختيار ينطلق فيه الفكر والخيال إلى فضاءات لا نهائية، ولا ينضج الإبداع إلا في بيئة ملائمة لنضجه، والمرأة عانت منذ فجر التاريخ من التضييق الاجتماعي والمناخ الخانق لحريتها تحت مظلة العيب الاجتماعي والموروث الثقافي الذي يجعل المرأة في مرتبة أدنى من الرجل عقلياً وثقافياً وإبداعياً، فكيف الحال وهناك شاعرة أو روائية تحمل على كتفها طفلاً هو في نظرهم الأولى بتلك الطاقة الإبداعية!

ساهم في خلق هذا التصور الاعتقاد السائد في الكثير من المجتمعات، وفي مختلف البلدان والثقافات بأن المرأة هي المسؤولة الرئيسية عن تربية الأبناء ورعايتهم، وكذلك المسؤولة الرئيسية، ولربما الوحيدة أيضاً، عن رعاية المنزل، الأمر الذي يسبّب لها ضغوطات لا تنتهي، فكيف الحال إن كانت المرأة مبدعة تحاول لمَّ شتات أمرها وإبداعها داخل هذه العاصفة من المهام والأعمال! وهنا تبدأ سلسلة الخيارات المرة في معظمها وإن كان هناك من نجحن في تجاوز هذا المأزق مثل الروائية التونسية رشيدة الشارني التي تقول في لقاء معها «ليس أروع من إحساس الأمومة لدى المرأة، المعاناة أثناء الحمل وتجربة المخاض تمنحان الأمّ الطاقة، وتقويان عزيمتها وتوازن روحها، وحدها هذه العاطفة المتدفقة بإمكانها أن ترمّم المرأة وتجدّد أحلامها وتبعثها مكللة بلذة الخلق، الأمومة امتلاء بشيء من الذات الإلهية والأبناء هدية كرّم بها الله الأنثى». من هنا كان مفهومي للأمومة وتقديري لها. دوري كأمّ كان دوماً قبل مهمّتي ككاتبة والمسألة كانت محسومة عندي منذ البداية، «لا مجال للتقصير أو الإخلال أو التنازل مقابل الكتابة». ابني كان ومازال فوق كلّ اعتبار. حاجته إليّ وهو طفل أكبر من حاجتي إلى الكتابة ومع ذلك كتبت عددا من قصصي الأولى وأنا حامل وكتبت البعض الآخر وطفلي رضيع، وكثيرا ما قرأت وهو بين أحضاني مع العلم أنني أقوم بأعباء البيت بمفردي ولم أكن امرأة مرفهة.

وفي المقابل هناك من وقفن على الضفة الأخرى يعشن مخاوف المغامرة والاختيار بين الإبداع والأمومة، هذه الثنائية الجديرة بالتأمل والكتابة حول عوالمها المدهشة اللذيذة!