-A +A
علي بن محمد الرباعي
جاء (تُرابان) للحياة بداية موسم خريف، وفي جسده ودماغه؛ عِلل تهد بعير، كان رأسه أكبر من رأس أبوه، وجسمه أنحف من جسم أمه، ووجهه مستطيل ولِحيه الأسفل متقدم على الأعلى، وعيونه غاطسة في رأسه، وفي نونها برقة، تثير فزع الأطفال إذا بحلقوا فيه.

نادى الأب على خاله، وطلب منه يستدعي الفقيه ومرته، فحضر الفقيه وزوجته، بالزعفران وماء ورد، وأحجبة، ومشرط الكيّ. أخذه في حثله، وقلّبه على جنبه وعلى بطنه، فقال؛ الشوفة في الله، ثم وضع المشرط فوق الجمر، وأمّه تردد؛ تراك سدّ وجه الله، لا تكويه، فقال؛ لا تعرّضيني سدّ جاه الله، إن ما نفعته الكيّة ما تضرّه، ثمّ دمغه في صدره، فضكّت رائحة الشياط، وانطفأ بريق العين، وسكنت حركة الأطراف، ثم قال لأمه؛ ما ظني يسعفه عمره، إلا إذا رضع، فالله قادر يكتب له عمراً من جديد.


حفروا له الجماعة، قبراً، وترقّبوا متى ينعى الناعي، ولكنّ السالم له في البحر طريق. بنهاية يوم ثالث، فتّشت عيونه، فأدنته الأم من فتحة أعلى ثوبها، فمدّ سندوقه، وكأنه داب الصيف، اللي ما يفك الملدوغ وفي عينه قُطرة، وكلما حاولت أمه تنصرف لأداء واجباتها اليومية، طنّ بالصايح، فتعود وتضمه لصدرها، وكلما انتهى من ثدي التقم الثاني، حتى نفد صبرها، فترجّت زوجها يشتري منيحة، تخفف عنها، بعض هلع ابنهما على الرضاع، وأقسمت أنه يمقّها مقّ الحُوار للناقة.

عاد الأب من سوق الخميس، بعنز شامية حمراء، وشاة مصريّة سوداء، ضرعاهما يسحبان في الحيلة، ومعهما جُفران وبهم شُقر وسود ما غير تهذّي، وسرعان ما دبّت الحياة في هيكل (تُرابان) وانفرجت أساريره بالبهم، يلهو ويمرح معهم، ويقاسمهم حليب أمهما، حتى أفصح اللسان اللي يكسّر الحصى.

بلغ الرابعة من عمره، وبدأ يطرح الأسئلة، وشيء منها تجيب عنه الأم، وشيء تقول؛ مدري عنك انشد أبوك، وشيء تنهره وتقول؛ صِخ صاخ أدبك عيب، وما يجمعه من معلومات في النهار، يحبكه ويعيد سرده على إخوته قبل النوم، ويضيف بعض اللقطات الضاحكة ليأسرهم، ويساومهم على التمرة والجمرة.

أنقذته علّته الوراثية من الأشغال، ولم يكلفه والده بأي عمل، فهو طفل البيت المُدلّل، يسرح إخوته بالغنم، وينطلق بعضهم لحماية الطير، وهو يُدلدل رجليه من بين عوارض النافذة الحديدية التي تحول دون سقوطه، ويُشرف من علو على السُّبل المؤدي للوادي، ويفتح أحاديث مع السارحات، والرايحات، حتى جعل النساء من الجدار المقابل لشباك (ترابان) منسماً، يريّحن من عبء قِرب الماء، وثقل الأعشاب في القفاف، وشوك الحطب، ويمسحن العرق عن وجوههن، بالشراشف، ويتنسّمن، ويُصغين لأحاديث وحكايات، وقصائد (تُرابان)، فتنبعث الضحكات، وبعض الأيام يقذفن له بفواكه يخرجنها من صدورهن فيُقبّلها قبل أكلها.

وصل سنّ البلوغ، وصار يسرح ويمرح، ويتطيّب ويتكحّل، ويصول ويجول، وكلما طلبه أحد يساعده في شيل أو حط؛ يقول؛ أنا ما فيّه سرّة كما تقول أمي، ما معي إلا لساني كما الشاة المِزْرِيَة.

استقل إخوته وأخواته، ببيوتهم، وكل له مرزقه، إلا ترابان، لا شغلة ولا بغلة، وكلّ ما طرق باب بيت، رحّبوا وسهّلوا، ويشترط عليهم؛ وجبة دسمة، ودلّة وبرّاد، وأسلّيكم إلى شرقة الشمس، وابتهجت أهالي القرية أن الله رزقهم بمن يسلّيهم ويخفف عنهم بعض شقاء النهار.

ومع مرور الوقت، دبّ الكسل في الجميع، وزهدوا في العمل، وصاروا يرددون مع (تُرابان) (حزّة البسط لا تخاطيها)، فانبسطوا وهجروا المزارع والحلال، والمعتاز يتسلّف، والمحتاج خدّه في التراب، وترابان ما يمديه يغطي مواعيد التسلية في البيوت، الكل يبغي سواليف، وتعميرة رأس، وعسى الحاطبة ما تروح بعود.

خشي العريفة على جماعته يموتون من الجوع، وأقسم على (ترابان) ما يرقد يوم الربوع إلا عنده، واجتمع بثلاثة طحاطيح، وأوصاهم يقلعونه في اللي ما يحفظه، وطلب منهم، يمرونه فجر الخميس، فأيقظه، وقال؛ قم اهبط مع الرّفاقة، تسوّق، وتذوّق، وتشوّق. وفي الطريق وقبل انبثاق ضوء الفجر، لفّوا عمامته على وجهه ورقبته، وأقحموه في كُرّ مهجور، وعادوا للقرية، وكلّما نشدهم عنه نشّاد؟ أجابوه؛ هبط ما صدر.