-A +A
محمد مفتي
اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات من القرن الماضي، واستمرت قرابة عقدين من الزمن أكلت خلالهما الأخضر واليابس، وقد ألقى اللبنانيون -وقتئذٍ- باللوم على الفصائل الفلسطينية في اندلاع تلك الحرب، وبدون الإسهاب في التحقق من صحة أو عدم صحة تلك الادعاءات، فقد غادرت الفصائل الفلسطينية المسلحة لبنان في عام 1982 إلى تونس، وتوقع الكثيرون -وقتذاك- انتهاء الحرب الأهلية، غير أن الحرب استمرت بوتيرة أشد بين الميليشيات اللبنانية المتصارعة على حلبة الوطن، حتى كان عام 1990 عندما استضافت المملكة قمة الطائف والتي انتهت بحل جميع الميليشيات والالتفاف حول الشرعية اللبنانية متمثلة في رئيس الدولة وحكومته.

بعد اتفاق الطائف خرج أمراء الحرب الأهلية بحلة جديدة تناسب الوضع الجديد، فقد سعوا للسيطرة على المناحي الاقتصادية والسياسية للدولة، وهو ما شكل عائقاً كبيراً لرؤساء لبنان الذين تناوبوا على قصر بعبدا لاحقاً، وقد وضع كل تيار منهم العراقيل والمتاريس أمام رئيس الدولة للاستحواذ على وزارات لبنانية سيادية تمثل شريان الحياة للدولة، ومن بين حطام الحرب الأهلية برز حزب الله كإحدى الأدوات العسكرية المؤثرة في لبنان.


لقد كان حزب الله -ولا يزال- بمثابة حكومة ظل في لبنان وشوكة في خاصرة أي حكومة لبنانية؛ كونه يحظى بدعم خارجي منقطع النظير، ولذلك فقد مثل هذا الحزب ورقة رابحة لمرتزقة السياسة من أجل دعمهم للفوز بانتخابات الرئاسة، أو للهيمنة على المقاعد الوزارية السيادية، وهذا ما جعل رئيس الدولة أو الحكومة اللبنانية عاجزين عن مواجهة التيارات اللبنانية المختلفة، فرئيس الدولة لا يستطيع تسمية رئيس الحكومة ما لم يقدم بعض التنازلات لحزب الله ومن خلفه التيارات المتصارعة، وإن نجح في تسمية رئيس الحكومة فإن الأخير بدوره يظل عاجزاً عن تسمية أعضاء حكومته، فكل تيار يريد الوزارة التي ترضي خزائنه وخزائن حزبه، أما المواطن اللبناني البسيط فهو في الأصل خارج المعادلة.

بعيداً عن مبادئ العلوم السياسية وفقه العلاقات الدبلوماسية فإن هناك العديد من الملامح التي تؤطر الوضع السياسي الحالي في لبنان، والذي قلما يتواجد له مثيل في التاريخ القديم أو الحديث، ولو استعنا قليلاً بفن الرسوم المتحركة Motion Graphics من أجل توضيح المشكلة اللبنانية بشكل مبسط، سنجد أن لبنان أشبه بسفينة تمخر عباب البحر المتلاطم الأمواج، ولتلك السفينة أكثر من ربان، لكل ربان منهم دفته الخاصة وخارطته الملاحية التي تمثل طموحه الشخصي وطموح حزبه، ونتيجة لذلك فالسفينة تكاد لا تستقر على وجهة محددة، فهذا الربان يريد لها أن تبحر شمالاً، بينما الآخر يريدها أن تبحر جنوباً، وثالث يريدها أن تتجه شرقاً بينما يفضل الرابع أن تتجه غرباً.

ونتيجة للوضع المزري السابق نجد أن السفينة تدور حول نفسها بقوة واضطراب بدون هدى، ترتطم بالأمواج العنيفة الصاخبة وتتدافع في اتجاهات شتى هنا وهناك، فهي عالقة في منتصف البحر بعيدة عن جميع الموانئ ومعرضة للغرق في كل لحظة، أما المسافرون على متنها (الشعب اللبناني) فهم مغلوبون على أمرهم، واقعون في حيرة وذهول تدفعهم اضطرابات قائديها إلى البحث عن قوارب النجاة، وكنتيجة لترنج السفينة يمينا ويساراً يتساقط الكثير من الركاب في عرض البحر وقد أصبحوا فريسة لأسماك القرش المحيطة بالسفينة، وعلى الرغم من تعالي صراخ الركاب إلا أن ذلك لم ينجح في توحيد قائديها، فقد تمترس كل واحد فيهم داخل قمرة قيادته عازماً بإصرار وتعمد على الاستمرار في غيه حتى لو كلفه ذلك حياته وحياة جميع ركاب السفينة.

أزمة لبنان الحالية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة من نوعها، وقد تعود «بعض» ساسته على إلقاء اللوم على هذا وذاك والتهرب من أي كارثة تحل بالوطن، وإن امتدت لهم يد العون السخية وهي تزخر بما يسيل لعابهم زاحموا المناكب للاغتراف منها، وإن كانت بما لا تهوى أنفسهم تفرقوا وسارعوا بعض تلك الأيدي، وبدلاً من أن يعترفوا بأنانيتهم وانتهازيتهم وتغليبهم لمصالحهم الشخصية الضيقة على تحقيق الصالح العام للبلد، نجدهم وفي كل مرة يجتهدون أكثر في العثور على كبش فداء جديد، وهو ما أصبح بمرور الوقت سمة سياسية أصيلة متبعة في كافة الأحداث التي تمر بها لبنان.

يحاول بعض السفهاء -وما أكثرهم- تصوير موقف المملكة الأخير على أنه نوع من الوصاية وإملاء الإرادة، وهو ما يمس السيادة اللبنانية على حد زعمهم، غير أننا «من أفواهكم ندينكم»، فإن كان الأمر كذلك فلماذا يدلي البعض منكم بتصريحات نارية تمس السيادة السعودية وأمن شعبها؟ ويبدو أن المتفيقهين الذين يلوكون هذه التصريحات لا يفرقون بين الفعل ورد الفعل، ولا ألومهم كثيراً في ذلك، فالتاجر الانتهازي الذي يرتقي سلم السياسة تضبط تصريحاته معادلة الربح والخسارة أكثر من معادلة شرف المهنة.

إن موقف المملكة الأخير يمثل رد فعل تجاه تصريح وزير في الحكومة اللبنانية قام بتبرئة الجاني وأدان المجني عليه، ولعل التصريح الذي أدلى به القرداحي قبل تعيينه كان بمثابة المهر الذي دفعه لحزب الله للموافقة على تعيينه وزيراً ليخطو أولى خطواته تجاه قصر بعبدا، لكي يؤدي القسم أمام رئيس الدولة وقد أدار ظهره لكل من سانده، وفي الحقيقة هناك الكثير مما يمكن أن يقال له ولغيره ممن امتهن المتاجرة بوطنه، ولكني لا أرغب أن أمرغ قلمي في آسن ذكراهم، «على الأقل في الوقت الراهن» فلكل حادث حديث.