-A +A
طلال صالح بنان
السياسة عمل احترافي، بالدرجة الأولى. الساسة، في الدول النامية المستقرة، نتاج تجنيد وتدريب عالٍ من قبل مؤسسات سياسية حزبية متجذرة في مجتمعاتها، تعكس مصالح الفئات التي تنتمي إليها، في إطار هوية وطنية متماسكة ومتينة، تؤهلهم للخدمة العامة، بكفاءة عالية، عندما يرتقون لمراتب السلطة ومواقع المسؤولية.

أهم مواصفات السياسي المحترف وعيه الشديد بمصالح بلده، وإن كان ينتمي لتيارات متباينة ضمن قوس قزح خريطة مجتمعه وتياراته السياسية المتباينة. قد تكون للسياسي المحترف أيديولوجيته السياسية، التي تميزه عن غيره من المشتغلين بالسياسة، وقد تكون له ميوله الحزبية، وحتى الطائفية، التي أحياناً تتحكم في سلوكه السياسي، حتى بين رفاقه في العمل الحزبي أو النشاط السياسي، إلا أنه في النهاية مواطنٌ، لا يساوم على وطنيته.. أو يتهاون في خدمة مصالح بلده والذود عن أمنها، ولا يأخذ من المواقف والسياسات ما يخالف دستور بلده وقوانينها.


كلما كان السياسي محترفاً ومنضبطاً وملتزماً بالعلاقة الخاصة التي تربط من يمثلهم أو ينتمي إليهم أو يتصدى لخدمة مصالحهم، من خلال عمله السياسي، بالمصالح العليا لوطنه، كان هذا السياسي فاعلاً ومؤثراً في حركة العمل السياسي في مجتمعه، وتزداد فرصه الحقيقية والمحتملة في الترقي لأعلى المراتب، ومن ثم تقلد المناصب السياسية في مجتمعه.

أما من يجد نفسه، فجأة وبلا مقدمات، في بؤرة العمل السياسي، دون أن يكون مهيأً للعمل السياسي، بصورة احترافية كفؤة، فإنه سيكون كمن يقذف نفسه في الماء، دون أن يكون قد تعلم السباحة، فإما أن يغرق أو لا يعود إلى العمل السياسي مجدداً، لو قدر له أن ينجو من الغرق، بل وقد يخسر كل ما سبق وكسبه، قبل دخوله معترك السياسة الشديد القسوة والعديم الرحمة، الذي لا يحتمل أي شكل من أشكال الأخطاء والهفوات والزلات، مهما بلغت ضآلتها وحَقُرَ شأنها.

مهما كانت دوافع تسمية جورج قرداحي وزيراً للإعلام في وزارة نجيب ميقاتي الحالية، إلا أن اختيار قرداحي وزيراً للإعلام فيها لم يستند إلى معايير سياسية حقيقية معتبرة، بقدر ما تم التركيز على تاريخه الدعائي «الترفيهي»، الذي لا يمت إلى العمل السياسي بصلة. ربما، كان اختياره، رغبةً في الاستفادة من صلته التاريخية بدول الخليج العربية، خاصةً المملكة العربية السعودية، التي كانت مؤسساتها الإعلامية وراء شهرته وذياع صيته الدعائي، لعلّ وعسى أن يساهم في تحسين علاقات لبنان، بهذه الدول، التي تشهد توتراً، منذ فترة، بسبب الممارسات الخارجية في لبنان والمنطقة.

حالة تعيين جورج قرداحي وزيراً للإعلام في حكومة نجيب ميقاتي الجديدة، هي نموذج «كلاسيكي» لإقحام الهواة في معترك العمل السياسي العام، اعتماداً على شهرة دعائية، ليس لها صلة بالعمل السياسي الاحترافي. النتيجة كانت كارثية، بالنسبة للبنان، الذي يمر بمرحلة مصيرية دقيقة الحساسية، وآخر ما تحتاجه إساءة علاقتها التاريخية، بأهم مجموعة في النظام العربي، تتزعمها أكبر قوة إقليمية في النظام العربي (المملكة العربية السعودية).

مهما طال الأمر أو قصر، سيتم تدارك ما أفسده هاوٍ وجد نفسه في بؤرة العمل السياسي، بالصدفة أو حتى بالزج به، بجهله أو عن علمٍ منه، في العمل السياسي الرسمي، لخدمةِ أجندات بعيدة عن مصالح لبنان نفسه. إلا أن الضرر شديد. والثمن الذي سيدفعه لبنان سيكون فادحاً، قبل أن يتم تجاوز هذه الخطيئة التي ارتكبها وزير الإعلام اللبناني الجديد، الذي سقط في أول اختبار له، مدفوعاً بغرورٍ «نرجسي»، خُيل له في حالةِ ضعفٍ إنساني، أن اللعب على مسرح السياسة، مثل الذي خبره في «الاستوديوهات» المغلقة منبهراً بالأضواء وتصفيق الحاضرين والمتابعين، وهم يرونه يعبث بالملايين، السهلة والرخيصة.

جورج قرداحي، سيخرج من الوزارة، وبخروجه منها، لن يجد له «صديق» يمد له يد العون، هذا إن بقي له صديقٌ، أصلاً. لقد خسر جورج قرداحي، عالم السياسة، الدخيل عليه.. كذلك عالم «البهرجة» الإعلامية الفارغة، الذي كان وراء غروره الأرعن و«نرجسيته» المريضة... وقبل كل ذلك خسر نفسه.

السياسة عمل احترافي بامتياز، وليس هناك مجال للهواة والمغيبين وضعاف النفوس والمرتزقة في عالم السياسة.