-A +A
صدقة يحيى فاضل
سبحان الذي جعل الإنسان «خليفة» له في الأرض، وجعل هذا الكائن سيدا على كل المخلوقات، بما وهبه من مزايا، في مقدمتها: العقل والنطق. يخلق المبدع المصور ملايين البشر، على مدار الساعة، ويقبض ملايين أخرى، وإلى أن يشاء، جلت قدرته. ومن عظيم صنعه أن جعل كل إنسان (في هذه البلايين من أمثاله) فريدا، في ذاته... له شخصيته المميزة والمتميزة، عن غيره، ممن سواه، من بني جلدته، وله ذاتيته، التي يعرف بها، وإن كان وسط ملايين من أبناء جنسه. وكما أن لكل شخص ذاتيته المتفردة، فإن هناك عددا يصعب على الحصر، من «العوامل المشتركة»، بين كل الآدميين، في الشكل وفي المضمون، في الظاهر والباطن، في الفكر وفي السلوك الفعلي.

فكل الناس «متحدون» في الشكل العام، تقريبا. وكلهم يسعى لتحقيق «السعادة»... كل حسب مفهومه، وتصوره للسعادة. وكل الناس يأكلون ويشربون وينامون... إلخ، من العوامل المشتركة، رغم «تفرد» كل إنسان بخصوصية، تقتصر عليه وحده. وقد نتج عن هذه العوامل المشتركة ضرورة الاجتماع الإنساني... فالإنسان لا يستطيع أن يحيا - حياة طبيعية - إلا في مجتمع. وتكوين المجتمعات أدى إلى: ضرورة تنظيم وإدارة (سياسة) هذه المجتمعات... ونتج عن ذلك، ظهور القضايا والأمور العامة (المشتركة). أو ما يمكن أن يشار إليه بـ «الحياة العامة» (حياة الناس مع بعضهم)، أو «الشأن العام». و«السياسة» هي التي تنظم وتدير الحياة العامة، بل هي الشأن العام.


****

ولا شك أن الإنسان يصارع -على مدار الساعة، وطيلة وجوده على قيد الحياة- صعوبات ومشاكل لا حصر لها. ويخوض معارك، لعل أخطرها معركة المرض، التي تنتهي دائما- ومهما طال بقاؤه- بهزيمة قاضية، تلقي بالإنسان تحت الأرض. فوجوده في هذه الدنيا مؤقت، وعابر. ولكن «البصمة» التي يتركها بعد رحيله (عمله) هي التي تحدد مكانته، ومدى مساهمته في خدمة ذاته الثلاثية الأبعاد. وقد تبقيه حيّاً في الأذهان.

ومن آياته أن جعل الإنسان عبارة عن «زمن کامل»... فأي إنسان غالبا ما يكون ليس «مقطوعا من شجرة» - بل يجمع (في ذاته) كل الأزمنة... الماضي، والحاضر، والمستقبل. إن الإنسان الراهن عبارة عن: حاضر... له ماضٍ، هو: آباؤه وأجداده، وله مستقبل، هو: أبناؤه وأحفاده... هذا إن لم نقل إن ماضي هذا الإنسان وحاضره ومستقبله، هو: كل بني جنسه من الإنس. فإنسان اليوم هو «امتداد» لإنسان الأمس... وإنسان الغد هو امتداد لإنسان اليوم. ولازم هذه الخصيصة (المشتركة) تحميل الإنسان «مسؤولية» كبرى نحو نفسه... في أزمنتها الثلاثة الأساسية. وتتلخص هذه المسؤولية في: ضرورة قيام الإنسان بواجبه الإيجابي الأساسي، المتمثل في خدمة نفسه، بأبعادها الزمانية هذه.

****

وإذا كان الهم الأول للإنسان هو: السعي لتحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة لنفسه (الثلاثية)، فإن هذا السعي لا يصبح إيجابيا، إلا إذا كانت السعادة المنشودة ضمن إطار من القيم النبيلة... أي القيم التي تحقق الصلاح والخير، في الدارين... ولا تنزل أي ضرر، أو ظلم، بآخرين. وعلى هذا الأساس، يجب أن يصاغ «الحق» و«الباطل»... ويحدد كل منهما. وهذا يعني: أن الإنسان السوي هو: الذي يدافع عن الحق المتعارف عليه إنسانيا، ويسعى إليه، ويقاوم الباطل، وينبذه...خدمة لنفسه، وأجياله الماضية، والمقبلة. ذلك هو جوهر القانون الطبيعي... حكم العقل.

****

ولعل من أشد البواطل، هو الباطل السياسي... فالباطل السياسي تنتج عنه - في الغالب - بواطل كثيرة أخرى، بأنواعها وأصنافها المختلفة، والمتعددة. وإن سلمنا بذلك، تصبح من أكبر مسؤوليات الإنسان - أي إنسان – الأساسية، هي: مقاومة الباطل، بأنواعه، وخاصة الباطل السياسي الأخطر. المقاومة المضارعة تحسن الحاضر، وتنتصر لماضي الإنسان، وتمهد لسيادة الحق والخير في مستقبله.

والنظام السياسي، في أي بلد، هو الذي يدير الحياة العامة. إن صلح، صلحت. وإن فسد يحصل العكس. فهذه الإدارة قد تكون إيجابية، فتقود بلادها للخير والأمن والاستقرار والازدهار، كما هو حاصل بالمملكة. وقد تكون سلبية، فتجر بلادها للتهلكة، وللاضطراب والدمار وعدم الاستقرار، كما تفعل حكومة سوريا الحالية. إذ تعاني سوريا الشقيقة، منذ استقلالها، من باطل سياسي خطير، تمثل في استحكام قلة قليلة من شعبها، واستيلائهم على السلطة فيها، والحكم بما يخدم مصالح تلك القلة، وعلى حساب حرية ومصالح غالبية الشعب السوري. وقد تضاعف ضرر هذا الباطل (الاستبداد) الطائفي السياسي في سوريا في العقود الخمسة الأخيرة. وأدى – بالضرورة – لتذمر واستياء الشعب السوري، ومن ثم ثورته. فشمر النظام الأسدي ومؤيدوه عن سواعدهم، ووجهوا آلة القتل والتدمير لديهم، لقتل أبناء الشعب الثائرين، والمعارضين لنظام الأسد.

في البدء، كان صراعا بين شعب أعزل يطالب – سلما – بحقه في اختيار حكومته، ونظام مستبد (باطل)... جثم على صدور السوريين طويلا، وسامهم سوء العذاب، ودمر بلادهم. وتحول ذلك الحدث إلى صراع سوري – إقليمي- عالمي، عندما تدخلت قوى إقليمية، وعالمية، لجانب النظام، الذي استعان بها ضد شعبه، وقوى إقليمية وعالمية أخرى لصالح المعارضة. وتمخض هذا الصراع، الذي بدأ في مدينة «درعا» السورية، يوم 15/‏ 3/‏ 2011، حتى الآن، عن مقتل حوالى مليون سوري، وجرح وإصابة أضعاف هذا العدد، وتشريد الملايين، وتدمير أغلب البنية التحتية السورية. وما زال التدمير مستمرا. إذ دخلت هذه المأساة عامها الحادي عشر، دون أمل حقيقي في التوقف. هكذا يفعل الباطل السياسي الحاد. وهكذا تتعاظم تكلفة مقاومته. ولكنه سيهزم، في نهاية الأمر، إن استمرت مقاومته.