-A +A
محمد مفتي
تعد قضية تعدد الفتاوى من أكثر المشكلات التي تواجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية، كونها مجتمعات مسلمة متدينة في جوهرها تتحرى اتباع الدين ويؤرقها ارتكاب المعاصي والذنوب، ولعل ما يمنح تلك القضية أهمية قصوى أن الإفتاء بحد ذاته ليس أمراً بسيطاً ولا هيناً، فالفتوى رغم أنها تبدو للبعض كرأي مدعم وموثق بالأدلة يستطيع ممارسته العديد من الأشخاص، إلا أن الأمر في جوهره يتطلب توفر الكثير من الشروط والإجراءات، فالمفتي لا بد وأن يكون أولاً ملماً بتعاليم الدين بصورة عميقة، بل ويشترط أن يكون متبحراً في جوانب معينة تتعلق بالقضية محل الفتوى، وأن يكون حصيفاً ومتفهماً طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه طالب الفتوى، وفطنا إلى الحد الذي يمكّنه من تطبيق القواعد الفقهية على كل فتوى على حدة.

من البداهة ألا يعتبر أي شخص قد اقتصر علمه على مجموعة كتب قرأها أنه مهيأ للفتوى، فالإفتاء هو علم له علماؤه، وتخصص له باحثوه، والفتوى لا يمكن البت فيها ما لم يوفر طالب الفتوى كافة المعلومات اللازمة للحكم عليها وتوفير رأي فيها، كما أن المفتي يجب أن تتوفر لديه الخبرات المجتمعية والواقعية الكافية التي تؤهله على استشفاف مدى واقعية أو حيادية الفتوى، فطالب الفتوى قد يطرحها بطريقة ذاتية منحازة لكي يحصل على رأي ديني معين يوافق هواه، وهنا على المفتي أن يمتلك من المهارة ما يؤهله لاستشفاف تلك الثغرات، ولا يتجرأ على الفتوى دون توافر المعلومات الأساسية المنطقية المهمة قبل إبداء الرأي فيها.


ما دفعني للخوض في هذه القضية الحساسة هو ما تابعته على العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تشهد اندفاعاً متواصلاً من المستخدمين للحصول باستمرار على فتاوى تخص الكثير من جوانب حياتهم، وقد لاحظت اهتمامهم الخاص بمخاطبة الكثير من غير المختصين للحصول على آراء تبدو لهم معتمدة وموثقة، «وبصفة شخصية» واجهت هذا الأمر كثيراً، فلأن لقبي «مفتي» يظن البعض أن لي نصيباً منه، ولعل بعضهم يظنونه تخصصاً شرعياً حصلت عليه، ولأن حسابي بمنصة تويتر موثق، أجد دوماً بريدي ممتلئاً بتلك الرسائل التي تطلب مني شخصياً إبداء رأيي والإفتاء في قضايا معينة، وقد كان هذا الأمر يثير تعجبي بشدة في بداية الأمر، فمن يراسلونني لا يعرفونني إطلاقاً، بل يخطئون في التمييز بين لقبي وبين تخصصي العلمي الذي لا يمت للإفتاء بصلة، والأغرب أن بعضهم يقوم بإرسال تفاصيل القضية دون استئذاني وسؤالي عما إذا كنت متخصصاً أم لا، ولا حتى يحاول أن يستوثق عن مدى تعمقي في القضايا الشرعية، وفي البداية كنت أرد باختصار موضحاً عدم تخصصي، ولكن مع استمرار تلك الرسائل وتدفقها إلى بريدي الافتراضي اعتدت الأمر كثيراً، وأصبحت أتجاهل تلك الرسائل كليةً.

ما أرغب في تناوله هنا هو ظاهرة مجتمعية منتشرة، تعكس مدى السطحية والاستسهال اللتين يتمتع بهما البعض ممن يسهل تحويلهم لضحايا حقيقيين لو وقعوا في أيدي زمرة إرهابية متطرفة، تجيد التلاعب بهم وتوجيههم على النحو الذي يرغبونه، ولعل هذه الفئة من المجتمع تعتبر المادة الخام المثالية للإرهابيين والمتطرفين ممن يجيدون استغلال ضعاف النفوس لتمرير الكثير من الأفكار المضللة والمغلوطة على أنها مبادئ الدين الحقيقية، والدين بريء منها تماماً.

وبخلاف ذلك فإن لتلك الظاهرة السلبية العديد من المساوئ، لعل أهمها أن تهافت البعض للحصول على فتاوى من أطراف أخرى ليس لها علاقة بالدين، قد يغري العديد من ضعاف النفوس على التجرؤ على الفتوى إرضاءً لغرورهم ولإشعار أنفسهم بأهميتهم الزائفة، فشعورهم العميق بالنقص قد يجد تعويضاً مباشراً في شعورهم بأن الآخرين يحتاجون لهم ولآرائهم، ويمنحهم ثقة لا أساس لها في أن آراءهم حصيفة ومهمة بنفس أهمية تعاليم الدين نفسه، فهم ما بين عشية وضحاها أصبحت لهم اليد العليا في مصائر العديد من أفراد المجتمع، فكل رأي أو اجتهاد يقولونه ينفذه الآخرون بغاية الطاعة، فطالب الفتوى يعتقد أن هذا الرأي هو رأي الدين فيمتثل له ويطيعه، بينما المتجرئ على الفتوى بغير علم يظن في نفسه أنه غدا بالفعل رجل دين.

من الأهمية بمكان تثقيف جميع أفراد المجتمع ضد هذه الظاهرة السلبية، فالمجتمع المثقف الواعي يصعب سقوطه فريسة للمدعين، ويتعذر إضلاله بأية أفكار غير منطقية خالية من الإقناع، والفتاوى لها أهلها المتخصصون وهم من ينبغي الاسترشاد بهم فحسب، كما أنه من الأهمية بمكان نشر الوعي بين أفراد المجتمع فيما يتعلق بطريقة عرض الفتوى، فلابد أن يكون صاحب الفتوى موضوعياً محايداً قادراً على عرض فتواه بحياد حتى يحصل على رأي أقرب للصحة فيما يطلب الاستشارة فيه، وعلينا الاهتمام بنشر الوعي الكافي بين المواطنين من خلال العديد من المنابر التعليمية والإعلامية، فرفع المستوى الثقافي والتعليمي للمواطنين هو الضمانة الأولى لحماية المجتمع من تلك الفئة المتاجرة بالفتاوى.