-A +A
محمد مفتي
لعل أهم ما يميز القضاء السعودي منذ تأسيسه وحتى الآن هو قبوله بمبدأ التسوية في بعض القضايا الجنائية، وقد سبق لي أن تناولت هذه القضية تحديداً في مقال سابق بعنوان «قرارات النائب العام» في عام 2018، وقضايا التسوية عادة ما تتعلق بالقضايا التي يتم خلالها ارتكاب الجُرم لأول مرة وخلو سجل المتهم من أحكام سابقة بشأن قضايا مشابهة للقضية التي تمت الإدانة فيها، أو إذا كان الجاني حدثاً صغيراً في السن.

التسوية حق يمنحه ولي الأمر لإعادة المتهم للمجتمع ومنحه فرصة أخرى للعودة إلى الحياة الفطرية السوية، وتتجلى عدالة القضاء السعودي ونزاهته في القبول بالتسوية حتى في قضايا القتل (بخلاف قضايا الإرهاب) ففي قضايا القتل تسعى الدولة جاهدة من خلال لجان الإصلاح إلى تسوية مع أهل الدم للعفو والقبول بالدية لإسقاط القصاص، وهو حق كفلته الشريعة الإسلامية الغراء.


يتسلسل تدرج القضايا بدءاً من قسم الشرطة ثم النيابة العامة وأخيراً المحكمة، وفي كل مرحلة من هذه المراحل تتم عملية التسوية، والتي يكون الهدف منها هو التوفيق بين الأطراف المتنازعة لتجنب صدور حكم قضائي قد يضر بسمعة المذنب، خاصة إذا كانت القضية هي الأولى بالنسبة له، فصدور صك قضائي يحمل الإدانة قد يتسبب في إحداث أضرار جسيمة قد تكون أكبر من الحكم في القضية المدان فيها المتهم، خاصة في حال رغبة الشخص في الحصول على وظيفة هنا أو هناك، إضافة إلى أنها قد تضر بسمعة الشخص اجتماعياً.

بصفة شخصية اطلعت على تجارب بعض الدول وعلى الأخص الغربية في هذا المجال، ووجدت أن جهات التحقيق هناك والمناط بها إدارة القضايا الجنائية، تقوم خلال فترة التحقيق بالتفاوض والتسوية مع المتهم مقابل الإدلاء بالمزيد من المعلومات والتي قد تكون مفيدة للمتضررين وللدولة ذاتها، وتكون التسوية في هذه الحالة إما غرامة أو تخفيف عقوبة السجن، وكثيراً ما نجح هذا الإجراء في إعادة الكثير من المتهمين إلى أسرهم وإعادة الكثير من الحقوق لأصحابها.

تشترط بعض الدول في مبدأ التسوية خلو سجل المتهم من سوابق في قضايا مشابهة، بحيث يتم إبلاغ المذنب بأنه في حال تكرار الجُرم فستتم محاكمته على القضيتين الحالية والمستقبلية، بمعنى أن عدم إصدار حكم قضائي في القضية الحالية مرهون بعدم تكرار الحدث، وأحيانا تتضمن التسوية إصدار حكم قضائي مخفف نوعاً ما عن عقوبة السجن كالإقامة الجبرية أو المنع من السفر.

قبل فترة من الوقت (سنتين تقريباً) شاهدت لقاءً تلفزيونياً مع معالي رئيس هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وقد تحدث في أحد محاور اللقاء عن قضية التسوية في القضايا التي تباشرها الهيئة، حيث أشار إلى أن قضية التسوية قيد الدراسة، ومع تتابع البيانات التي تصدرها الهيئة والمبالغ المالية الضخمة التي وصلت إليها تلك القضايا وطبيعتها، ومع ترقب صدور نظام التنفيذ الجديد أجد نفسي -وبصفة شخصية- ميالاً إلى الأخذ بمفهوم التسوية، على أن تكون مقننة وأن تأخذ في الاعتبار العديد من العوامل.

على سبيل المثال يمكن الأخذ في الاعتبار السجل الجنائي للمتهم مثل وجود صك حكم سابق، فالحادثة الأولى لطرف من الأطراف المنخرطة في قضايا الفساد تختلف عن تلك ذات الطبيعة المتكررة التي مارسها نفس الشخص، فخلال التحقيقات الجنائية قد تكون الحالة استثنائية لم يسبق للمتهم الخوض فيها من قبل، على خلاف بعض الأشخاص الذين انخرطوا في عمليات عديدة أضرت بسمعة الجهاز نفسه وتسببت في إهدار مبالغ ضخمة.

أيضاً يمكن الأخذ في الاعتبار حجم المبالغ التي تم الاستحواذ عليها دون وجه حق، فقضية لا تتجاوز بضعة آلاف من الريالات تختلف عن قضية أخرى مشابهة لذات الجُرم بلغت عشرات وربما مئات الملايين، وفي حال ثبوت وجود تحويلات خارجية للمتهم يصعب للدولة الوصول لدقتها وحجمها، يمكن القبول بمبدأ التسوية في حال تمت إعادة المبالغ التي تم تحويلها للخارج.

من الأمور التي يمكن أيضاً أخذها في الاعتبار هو مدى تسبب المتهم في الإضرار الشخصي بفرد أو بعدة أفراد محددين من عدمه، فقد تؤدي إساءة استغلال السلطة إلى الإضرار بسمعة أطراف محددة والاستيلاء على حقوقهم بشكل أو بآخر، كتزوير المستندات الرسمية التي قد يترتب عليها ضياع حقوق أشخاص، أو قد يكون الجُرم بالغ الخطورة فيمس سيادة الدولة أو قد يؤثر على أمنها القومي وهو ما لا تهاون فيه.