-A +A
أريج الجهني

رجل الأمن هو ذلك الرجل الذي لم تمسه شهوة السلطة ولم تُغْرِه سطوة المال. أن تتربى وتنشأ في منزل لأب عاش حياته في الأمن يجعلك تدرك أن (الأمن) أب. وأن النشأة على حب الوطن قد تكون في كثير من الأحيان وراثة تماما كالجينات التي نرثها منهم؛ بل تكتسب منهم الكثير من الصفات والسمات الأمنية فتجد أنك منضبط ودقيق ولا تصدّق كل ما تسمع وتتعاطف بشكل معتدل، لا تنجرف خلف العواطف ولا تهزك الدموع الكاذبة بل كثيرا ما تجد أنك ترى الأشخاص الكاذبين وتبتسم بدهاء وتمضي. فقد تشربت بعمر مبكر سلوكيات والدك وتعلمت أن الانتماء الأول والأخير هو وطنك ولا شيء سواه.

رحل والدي رحمه الله مكي بن محمد سالم في صباح الأحد الخامس من سبتمبر ٢٠٢١؛ وقد عاش عزيزا ومات عزيزا. لم يبح يوما بألمه ولم أره يوما إلا مبتسما ومتفائلا وقوي البأس. بل أتذكر ترديده الدائم لأبيات أبي القاسم الشابي “سأعيش رغم الداء والأعداء” وكأنه كان يعلم أن قوّته ستمتد حتى بعد وفاته. في ليلته الأخيرة كان يقرأ القرآن كعادته وفارق الحياة ومصحفه بجواره وهو يقف لصلاة الفجر وكان قد وضع سجادتين له ولأخي أحمد؛ توفي بسبب مضاعفات مرض السرطان الذي لم نكتشفه إلا بوقت متأخر وكان يعاني ولا يخبرنا ولم نعلم حتى إلا في نهاية الوقت؛ لكن أفهم تماما شخصية والدي وأفهم كيف لرجل مثله يأبى مشاعر التعاطف ولا يتقبلها وكيف كان يكره الشكوى وينهرنا عن التذمر رحمه الله رحمة واسعة.

ولد والدي في مدينة الوجه وتلقى تعليمه الابتدائي والمتوسط في القريات ثم انتقل للمنطقة الشرقية تحديدا مدينة الخبر ليكمل تعليمه الثانوي ثم انتقل للرياض ودرس الأدب الإنجليزي في جامعة الملك سعود. عاد بعدها للقريات وعمل كمعلم في أول مهنة له، وكان يجلّ العلم والتعليم وقرر بعدها أن يكمل الماجستير في أمريكا وعاد وترك كافة الفرص والوظائف المريحة والرواتب الضخمة وبدأ مسيرته الأمنية في إمارة منطقة الجوف، تدرج بوظائف عديدة وتقاعد وقرر البقاء في الجوف رغم انتقالنا أنا وإخوتي للرياض. تستطيع أن تقرأ كيف تتشابه مهنة التعليم بالأمن فهما حماية للنشء، الفرق أن رجل الأمن يواجه الخطر بشكل مضاعف. وتستطيع أن تتأمل في مسيرة رجال البادية وشغفهم بالترحال والتنقل وشجاعتهم وعدم طمأنينتهم للراحة.

هكذا يرحل الأقوياء بهدوء؛ يرحلون وهم واقفون. لم يعرف يوما الانكسار ولم أشهده يوما شاتما أو شامتا ولا لعانا أو مسيئا، ولم يخض في مهاترات، كان كثير الصمت قليل الكلام وعباراته موجزة وبليغة وغزير الثقافة والاطلاع، ويمتلك مكتبة زاخرة، كان يشاركني اختياراته وقراءته؛ سخّر حياته لنا وللوطن واهتم كثيرا بنجاحنا التعليمي منذ سن مبكرة. كان اسم الأمير الراحل نايف بن عبدالعزيز رحمه الله من أكثر الأسماء التي كنا نسمعها في المنزل، وكان يتحدث عنه بفخر وكيف كانت “المدرسة الأمنية” التي أسّسها رحمه الله ملهمة وثرية، وكيف امتدت ليومنا هذا وبقينا بخير رغم فوضى البلدان من حولنا. وكيف كان يكرر في كل يوم (الحمد لله على نعمة الأمن) كان رجلا كثير الحمد وزاهدا.

أكتب هذا ليس لأواسي نفسي فأنا لا أختلف عن والدي في قوته. لكن لأقول لكل رجل أمن شكرا لكم وشكرا لكل من نذر حياته لوطنه. وفضلكم بعد الله باقٍ ومخلّد ليوم الدين. وأقول أيضا لا تهملوا أنفسكم ولا يقلل من قيمة الإنسان أن يحزن أو يطلب المساعدة. بل حاجة الناس من حولكم لقوتكم واستقراركم أشد من حاجتكم لها. فأنتم أعين هذا الوطن وحماته ودرعه الحصين في وجه الأعداء. والذي أتمناه وأرجوه بل أعمل عليه فعليا هو صناعة تحول مفاهيمي في الوظائف الأمنية ولا أتحدث عن الممارسات؛ إنما عن الحوافز وأيضا عن نظرة المجتمع القاصرة في نظري لما يقوم به هؤلاء الصامتون. أمام ثرثرة الكثيرين وأمام عجز وشلل المنظومة الإعلامية في خلق حالة إيجابية أو حتى عكس الواقع. أخيرا فكما أن المال يورث فالقوة تورث والعدل يورث والأهم من هذا كله أن حماية هذا الوطن هي خير ما تتركه حاضرا في عقول أبنائك حين رحيلك. غفر الله لوالدي وللمسلمين وجعل قبره روضة من رياض الجنة والحمد لله على قضائه وإنا لله وإنا إليه راجعون.