-A +A
أسامة يماني
كثير من الكلمات دخلت للغة العربية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا العربية. وقد تطور الكثير من تلك الكلمات لدرجة تكاد تكون منفصلة عن جذورها ومعانيها الأصلية. ومعرفتنا بالكلمة وتطورها يجعل المرء أكثر إلماماً بدلالاتها ومضامينها ومعانيها.

وقد كُتب عن الزندقة والزناديق وشعر الزندقة شيء كثير. وتذكر الكتب التاريخية ما تعرض له الزنادقة من تعنيف وقتل وحرق لمؤلفاتهم في زمن الدولة العباسية، مثل «الفهرست» لابن النديم، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني.


إن أقدم نص رسمي حول «الزندقة» في التاريخ الإسلامي هو الوصية التي كتبها الخليفة المهدي إلى ابنه الهادي، يقول فيها:

«يـا بني فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور، وترك قتل الهوام تحرجاً وتحوباً، ثم تخرجها من هذه إلى عـبادة اثنين: أحدهما النور، والآخر الظلمة. ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات، والاغتسال بـالبول، وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى اللّه لا شريك له، فأني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين».

أما عن أصل كلمة «زنديق»؛ فقد جاء في الروايات أن «زرادشت» مؤسس عقيدة الفرس قد بشر بظهور مجدد، وقد استغلت هذه الرواية من قبل الدعوة «المزدكية» التي استغلتها وسخّرتها لمصالح سياسية واقتصادية، بعدما ظهر رجل اسمه «مزدك بن نامذان» أدعى أنه «الفارقليط» المنتظر، ودعا إلى ديانة جديدة لها كتاب مقدس أسماه «الزند» (والمؤمن به يدعى الزنديق).

دعا في هذه الديانة لبعض الأمور المستقاة من بعض العقائد الفارسية القديمة، لكن ما كان جديداً بعقيدته تلك، هو دعوته إلى إلغاء الملكية الفردية، لأن استئثار الإنسان بمال أو أرض أو بيت أو أي ممتلكات هو السبب - على حد قوله - في شيوع الحسد والحقد واعتداء الإنسان على أخيه الإنسان. وأن الوضع المثالي ألا يمتلك الفرد سوى قوت يومه، بينها تبقى بقية الأشياء على المشاع بين الناس».

استغل كسرى الفرس «قباذ» تعاليم الدين الجديد، واتبعه، لا عن اقتناع، وإنما عن رغبة في تقليم أظفار كبار رجال الدين الزرادشتي الذين تعاظمت سلطتهم، وتدخلوا في أدق شؤون الحكم.

ولكن بعد ذلك «وجد قباذ أن تحالفه مع المزدكيين لم يساعده على إضعاف سلطة الكهنة، بل بالعكس، أمدهم بالدعم الشعبي وتسبب في تحالفهم مع الطبقة الأرستقراطية التي كانت تتكون من أبنائها أقوى أجنحة الجيش. وأعاد كسرى حساباته وقرر أن الوقت قد حان للتخلي عن تأييد مزدك».

وفعلاً تم الخلاص من «مزدك» وقتله وأتباعه من قبل ولي عهده «خسرو» الذي لقب «أنو شروان» أي «الروح الخالدة».

وأصبحت بعد ذلك، كلمة «زنديق» أي المؤمن بكتاب الزند، تعني كل مَن يُحدث بدعة خارجة عن العقيدة العامة.