-A +A
نجيب يماني
لا أجد في «المسرحية الهزلية» التي قام بها رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان مؤخراً بـ«ادعاء» طرد طائفة من «جماعة الإخوان» من بلاده، أيَّ جديد مبشّر، يحملنا إلى القول بأن أردوغان في طريقه إلى إحداث تغيير جوهري في منظومته الفكرية، ومرتكزاته العقدية، وتوجهاته «الإخوانية» خاصة بعد ظهور مستشاره ياسين أقطاي على قناة الجزيرة وقوله متبجحاً إن كل تلك الأنباء إنما هي نباح. وإن كل ما قيل هو من قبيل الفبركة ولن تحدث. بمعنى آخر إنها في نظر العقلاء خطوة لغاية سياسية عابرة.

فهذه الخطوة «المفاجئة» ما هي إلا محاولة «استرضاء» مكشوفة النوايا، لمحيط يأخذ على تركيا الأردوغانية تصرفاتها الرعناء، وسلوكها المزعزع للأمن والسلم، كما تمثل هذه الخطوة صورة أخرى من صور «المخاتلة» السياسية التي ظل أردوغان يرتكبها بكل سذاجة وتسطيح، فالغاية -التي لا تخفى على ذي رمد- أنها خطوة تستهدف إصلاح ما أفسده مع مصر برعونته، وترميم علاقته بها، والتي عبث بها مزهوّاً بحلم «السلطنة العثمانية» و«أحلام الإخوان المنفلتة».. فإن ظنّ أردوغان أنه بمثل هذا المسلك سيكون قد قدّم ضمانات كافية، وتطمينات مريحة، تبعث على الاعتقاد بصدق عزمه، وحسن توجهه، فلا أقلّ من القول بأنه بعيد كل البعد عن تحقيق هذه الغاية، فلو كان جادّاً كلّ الجدية في قطع علاقته بـ«جماعة الإخوان» لظهرت بوادر هذا المسعى في سلوك تدريجي يبدأ أوّل ما يبدأ بالانتقاد، ومراجعة التجربة، وتقليم الأظافر الإخوانية داخل منظومته الحاكمة، وتجفيف منابع التمويل التي تستعين بها «الجماعة» في أنشطتها المشبوهة، وتحركاتها الملغومة، ولأعلن براءته منها طالما أنها مزعزعة لأمن المنطقة، ومثيرة للقلاقل والأزمات، وغير ذلك ممّا نتوقعه من أي جهة تستهدف اجتثاث منظومة فكرية، وطائفة عقدية، غُرست لها جذور، وقامت لها سيقان وفروع، وأينعت ثمراً، فأمر اجتثاثها لن يكون بأي حال من الأحوال «قراراً مفاجئاً» تطير به وكالات الأنباء، وتتلقفه وسائل التواصل الإعلامي والاجتماعي في معرض «الدهشة» و«الاستغراب»، ولكنه عمل مؤسسي ننظره ونتلمّسه، ونتوقع نتائجه الإيجابية، وهذا ما لم يعمل أردوغان عليه مطلقاً، ولن يعمل عليه، لسبب بسيط هو أنه متشرّب بفكر هذه «الجماعة» الإرهابية، ومقتنع بها أشد ما يكون الاقتناع، ولم تظهر عليه خلال الفترة القريبة أي «أعراض» تنبئ عن تحوّل فكري، وتغيير عقدي يحملنا إلى الاعتقاد بأن خطوته بطرد بعض أفراد «الجماعة» من تركيا مبعثها قناعة مبدئية؛ بل على العكس من ذلك تماماً، فقد أظهر من «المخاتلة» السياسية ما يدفعك للضحك سخرية، فقد بعث بتطمينات لـ«الجماعة» عبر حثّهم على إيجاد ملاذات أخرى، وهو ما شرعت فيه الجماعة بالفعل وهي تعقد اجتماعاً بعلمه، وتتدارس هذه الخيارات، وتقترح البلدان التي من الممكن أن تؤوي عناصرها التي ارتكبت أفظع الجرائم، وأدينت بذلك قبل أن تهرب إلى تركيا، بحسب ما أشارت بذلك بعض المصادر الصحفية.. وما يعضد ذلك رد فعل جماعة الإخوان حيال خطوة «أردوغان»، حيث لم يصدر عنها أيّ انتقاد أو احتجاج أو رفض، على عادتها في مثل هذه المواقف، بل لزمت «صمت الحملان»، هازمة بذلك العالم الفيزيائي «نيوتن»، الذي يرى أنّ «لكلّ فعلٍ ردّ فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه»، فجاء «فعل» أردوغان «ورد فعل» الإخوان متساويين في المقدار والاتجاه، بما يعني اتفاقاً واتساقاً ضمنياً وعلنياً في الأهداف والوسائل والغايات، وهو أمر مفهوم من كليهما، ولن يكون مبعث دهشة واستغراب، ولعلّ هذا ما كنت قد قرّرته في مقال سابق في هذه الزاوية.


متعقّباً مسلك أردوغان السياسي، المستند إلى عقيدته «الإخوانية»، ولا أجد محيداً من استدعاء ما كتبته سلفاً ليكون ماثلاً هنا لتطابق الموقفين، حيث قلت: «.. لو أنّا ذهبنا مع المفكّر الإيطالي نيكولو ميكافيلي إلى أبعد نقطة في مبدئه السّياسي الأشهر، الغاية تبرر الوسيلة، مهما كانت هذه الوسيلة منافية للدين والأخلاق، وحاولنا أن ننظر من خلالها لما يقوم به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من «مراوغة سياسية»، فسنكون بحاجة ماسة إلى استنهاض ميكافيلي من مرقده ليضيف إلى مقولته أن تكون الوسيلة منافية للدين والأخلاق والمنطق والعقل والجائز والمستحيل»، وإن تعذّر ذلك، فلا أقل من أن نعترف لـ«رجب» بأنّه أرسى منهجاً سياسيّاً جديداً؛ نقترح أن يطلق عليه «الأردوغانية»، قياساً على «المكيافيلية»، وهو مبدأ يستحقّ عليه رجب براءة الاختراع، مع الاعتراف الرّسمي، بأنّه فاق الأوّلين والآخرين في الانتقال الفجائي، والدّوران حول مركزه السياسي، قالباً كلّ المعطيات والمعادلات بـ«حركة واحدة» دون أن يطرف له جفن، أو يطالب نفسه -ولو على سبيل التبرير- بخطوة تمهيدية تشي بمثل هذه الانقلابات «الفجائية»..