-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أدى ظهور تقنيات الإعلام، وتحديداً في البث الفضائي، إلى ظهور فئة جديدة من المفولتين (الكلمنجية) الذين يقتحمون بيوتنا عبر القنوات الفضائية؛ ليتحفونا بآرائهم الفذة والعبقرية في ما يجري لنا وحولنا من دراما واقعية أبطالها أحياء يرزقون أو أموات فعلاً وليس تمثيلاً، أعني بعض كتائب المحللين السياسيين والاستراتيجيين، الذين يزعقون في كل القنوات الفضائية، يفتون بما لا يعلمون، ويصدرون الأحكام القطعية، فيدينون ويبرئون وبما ينسجم مع الخط السياسي للقناة التي يظهرون على شاشتها، يقولون كلاماً معقداً أو مجرد مستغلق على الأفهام، يتحدثون بحروف من عالم آخر، أناس غارقون في الطين والبؤس والأحلام الميتة، يجعلونك تشعر بأنك تقف على حافة جرف هارٍ، وتنظر إلى هاوية أنت ساقط فيها لا محالة، أصوات تتهارش في خشونة شرسة المعنى كقوس مكسور يتمدد فوق الكتف ثم يهبط نحو الظهر، تؤكد بأن هذا العالم يتجه نحو الحروب والدمار وسوء المصير، يغوصون بك في تلال من الرمال، ويرمونك في وادٍ سحيق من التعاسة والكدر، عاصفة ترابية من الشقاء الأسود تكسوك ما إن تستمع إليهم، وتدخل في فتحات أنفك وأذنك وفمك، وكل مسام جلدك، بل وتملأ مقلتيك، فيصير يومك طيناً وتسد أمامك الرؤية، عرفنا هؤلاء ورأيناهم على المستوى المحلي لأول مرة في حرب الخليج الثانية، وفي زمن الحرب على العراق، حين كانوا يطلون علينا بالصوت والصورة، أو بالصوت فقط من خلال الهاتف، ليشرحوا لنا من مكاتبهم في القاهرة وبيروت وعمان ولندن وباريس وواشنطن، ما يجري في بغداد والبصرة وأربيل، يشرحون ويهطلون غزيراً في تفاصيل، ويطيلون في الشرح وحتى مطلع الفجر، ثم واصل هؤلاء الإطلال علينا، في أوقات الأزمات المتلاحقة، التي تعصف بالمنطقة، منذ البدء بتطبيق الفوضى الأمريكية غير الخلاقة، وحتى هذ اللحظة، لحظة الانتخابات الأمريكية، ولقد تعددت صفاتهم، وابتكرت ألقابهم، فمنهم من انتقل من محرر إلى صاحب رأي، إلى محلل سياسي ورياضي عند الحاجة، إلى تقديم نفسه كخبير عسكري، أو خبير استراتيجي، أو مفكر سياسي، وهذا الأخير أخطرهم حيث يعيد ترتيب التاريخ كيف يشاء!! ولقد صنفتهم جميعاً بـ(الكلمنجية)لأنهم لا يختلفون في حوارهم عن طفلين يشوتان علبة (صلصة) فارغة ويجريان خلفها، ثم يتصارعان على من يحوزها بقدمه ويمررها من بين رجلي الآخر، ويحظى بالتصفيق، هذا وإن زعمت أنني وفقت في تصنيفهم جميعاً بهذا التصنيف الفريد، إلا أن أحدهم والذي يمصمص شفتيه دائماً وهو يتحدث، ويدوس على ضروسه، وكأنه يتوعد المشاهد، وينثر الرذاذ الفموي، من (بقه) على الشاشة والمخرج والمصور، عصي على تصنيفه، فهو متذبذب، يجمع بين صفة الأرجوز في النطنطة في المواقف، والطير البريء، الذي يغدو خماصاً ويعود بطاناً، يحدثك كالعالم ببواطن الأمور، حيث يبدأ حديثه بكلمتي (أنا..أجزم) مفترضاً أن جزمه، سيشكل قناعة جمعية وسيصبح ما تفوه به قولاً مأثوراً!! ومن داخل البيت الإعلامي، أكشف لكم ما أعرفه عن هذا الفريق، والذي يقتحم عالم البسطاء، فيجعلهم يعيشون القلق المضاعف، بقلوب وجلة، وعقول غارقة في الظنون.. لا تنام، يستمعون إليهم كغريق يتمنى أن يرى قشة محمولة على ظهر الموج، ليقبض عليها، بكل إرادته أملاً في النجاة، أن معظمهم يتقاضى مكافأة مالية كبيرة نسبياً مقابل الظهور على الشاشة، ومن هنا كانت مشاركتهم المملة، وذلك لضمان تدفق المكافآت المالية المجزية، لذا فلا عجب أن يصحو أحدهم من نومه ليشرح لنا ضرورة اليقظة في مواجهة المخططات العدائية التي تستهدف الأمة، أو يخرج من الحمام ليحذرنا من خطورة حرب المياه، وضرورة الاستعداد لها باعتبارها الحرب القادمة، أحياناً عندما أستمع إلى أولئك الغارقين في الطين والبؤس والأحلام الميتة مكرهاً، أستجمع شتات نفسي، وأبلع ريقي، وبضحكة مكتومة واثقة أقول (ربنا كبير وعالم بالحال وهو المدبر وعليه الاتكال)، أقولها بأنين رجل طاعن في السن، علمته جامعة الحياة والشارع والأيام والليالي، أن لا أتعب نفسي في تلقينها الديمومة في زمان متغير، والبحث دون جدوى عن مثالية لا وجود لها، لذا فقد استبدلت الحقيقة الكاذبة بالوهم الصادق، وتآمرت مع العبث للقبض على المستحيل، وقطعت على نفسي عهداً في أن أحول هذه الحياة بحلوها ومرها إلى سيمفونية رائعة من الأحلام، والأوهام، والحب والدموع، والضحكات، وأن أتعامل معها كسحابة عابرة أمتص منها المطر قبل أن تمضي لحال سبيلها.. أفعل كل ذلك رغم كل ما يقوله (الكلمنجية) فهم الذين أنسونا في هذا الزمان، نعمة الفرح، وعبقرية البهجة، ورائحة الأمل في العثور على بقايا مثل..!!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com