-A +A
طلال صالح بنان
تقوم الممارسة الديمقراطية، في المجتمعات الغربية، على قيم الليبرالية، التي تستند أساساً على الحقوق والحريات الفردية. الدولة، طبقاً للنظرية الليبرالية، لم تنشأ إلا بسببِ الحاجةِ لحمايةِ حقوق وحرياتِ الأفراد، ضد احتمال قسوة المجتمع.. وجور الحكومة... وعندما تفقد أو تتهاون الدولة، في مصدر شرعيتها الوحيد هذا، تفقد مبررات وجودها.. وربما يأذن ذلك بزوالها.. وتفككها من الداخل.

قد يكون هذا الأساس النظري للدولة المدنية، في المجتمعات الغربية، صالحاً لتفسير قيام الدولة ومبرر وجودها في المجتمعات الغربية، منذ عصر النهضة، وحتى مائة سنة مضت. الدولة القومية الحديثة في أوروبا وشمال أمريكا، كان يمثل البيض المسيحيون (كاثوليك وبروتستانت) ما يزيد على 90%؜ من السكان. عند هذا المستوى المرتفع من الأغلبية، لا ضير من ممارسة أو التأقلم، مع «رومانسية» المدينة الديمقراطية «الفاضلة».. والتباهي بـ«فوقية» الحضارة الغربية، تبريراً لـ«هيمنتها» الكونية.


في الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، قامت شرعيةُ النظامِ الفيدرالي، على مبدأِ التعددية السياسية للمجتمع الأمريكي.. وكان سبب اندلاع الحرب الأهلية (1861 - 1865)، الصراع بين ولايات الشمال الفيدرالية (الليبرالية) وولايات الجنوب الكنفدرالية (المحافظة)، حول الحقوق المدنية للأقليات غير البيضاء، السود على وجه الخصوص. لكن حملة تحرير السود، من ربق العبودية، التي حمل لواءها الرئيس الأمريكي السادس عشر إبراهام لنكولن (1809 - 1865) ودفع حياتَه ثمناً لها، لم تَقُدْ إلى تحريرٍ حقيقيٍ للسود، يتمتعون من خلاله بحقوقهم المدنية.. ويستمتعون بحرياتهم الفردية والمجتمعية، شأنهم شأن البيض.

كان السودُ في حقيقةِ الأمرِ، وحتى ستينات القرن الماضي، خارجَ نطاقِ مدنيةِ الدولةِ.. وتسامحِ مؤسساتها السياسية، وقبولِ الكثيرين من رموزها السياسية. ظل السودُ يعانون من اضطهادٍ عنصريٍ ممنهجٍ، يحميه القانون ويمارسه البيض، بعيداً عن الدستور. حتى ستينات القرن الماضي: أن يقتل رجلُ أمنٍ أبيض شخصاً أسود، بدمٍ باردٍ، من الأمور المعتادة، في بعض ولايات الجنوب الأمريكي.

كما قال زعيم الحقوق المدنية القس الأسود مارتن لوثر كنج ( 1929 - 1968): حملة تحريرِ السودِ من العبوديةِ لم تكن تستند إلى أساسٍ سياسيٍ واجتماعيٍ واقتصاديٍ حقيقي. لقد تُرِكَ السودُ في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، مما قاد إلى استمرارِ حالةِ عبوديتهم، لمئة سنة بعد صدور قانون تحريم الرق (1 يناير 1863). الأمر الذي أبقى على عبوديتهم الواقعية لأسيادهم البيض.

لكن هذا الوضع، وإن استمر لقرنٍ من الزمانِ بعد انتصارِ ولايات الشمال الليبرالية، في الحرب الأهلية، إلا أن الوضع لم يبق على حاله. في الجزء الثاني والأخير من هذا المقال، الأسبوع القادم، سنتناول هذه التطورات، التي أثبتت حادثةُ قتلِ المواطن الأمريكي (جورج فلويد)، أنها لم تكن كافية لاجتثاث «ڤيروس» العنصرية من ضمير الكثيرين من البيضِ، بمَنْ فيهِم بعضُ النخبِ اليسياسيةِ اليمينيةِ المتطرفة، وكذلك بعضُ مؤسساتِ الدولة، الأمنية بالذات.

كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com