-A +A
محمد مفتي
الحوار سمة من السمات الحضارية، والالتزام بآداب الحوار هو سلوك راقٍ ينم عن مقدار الثقة والثقافة التي يتمتع بها طرف دون طرف آخر، والهدف من أي حوار بشكل مبدئي هو هدف نبيل؛ وهو التوصل لأرضية مشتركة يمكن بناء نسق فكري على أساسها يسهل من خلاله فهم أبعاد القضية المطروحة بشكل كلي وشامل، أو التوصل لتصور لحل مشكلة ما، أو التأكد من مدى واقعية أو صحة أو منطقية المقترحات المطروحة للتعامل معها.

غير أنه في واقع الأمر قد لا تدور غالبية الحوارات والنقاشات على هذا النحو المثالي، ليس بسبب عدالة -أو عدم عدالة- القضية المطروحة، ولكن لأن أهم عامل في معادلة الحوار هو التكافؤ المعرفي والسلوكي لكلا الطرفين، فمن المتعذر تصور بناء نقاش راقٍ وحضاري بين شخصين يتمتع أحدهما بالحصافة وقوة الحجة، بينما يتمتع الآخر بالجهل والسلوك الفج، كما أن صدق النية عند إجراء الحوار يعتبر المحك الرئيسي لنجاح الحوار من عدمه، فالتدليس والمراوغة لأحد المحاورين مدفوعاً بأسباب شخصية، لا يسهم في فشل المناقشة فحسب، بل يفرغها من أي محتوى معلوماتي يستحق التقدير، ويجعلها أشبه بالمشاجرة والتلاسن.


قد يعتقد البعض أن انسحاب طرف من الحوار يعني أن هذا الطرف ضعيف الحجة ولا يملك من الأدلة ما يكفي لإقناع الطرف الآخر، ولكن هذا الأمر بطبيعة الحال غير صحيح، فالحوار مع بعض الأطراف يموت حتى قبل أن يولد، فالحوار يجب أن يتوقف على الفور مع بعض الأطراف التي يغلب عليها الهوى أكثر من الحجة، ولا يعني الانسحاب من الحوار التسليم بمنطق الطرف الآخر، ولكن لأن الحوار سيدور في حلقة مفرغة تماماً مما سيتسبب في المزيد من التشتت والإرهاق الذهني للأطراف المتابعة لمثل هذه الحوارات.

يضج الفضاء الإلكتروني بمئات الآلاف من الحوارات الجدلية بين مجموعة من الأطراف حول الكثير من الأحداث التي تعصف بالمنطقة، وتدور الكثير من تلك الحوارات بين أطراف لا يعرف فيها كل طرف هوية الآخر، لذلك تنتهي غالباً بالملاسنة، بل هي أشبه -وبدون مبالغة- بردح الضرائر، ولطالما كنت أتساءل بيني وبين نفسي كثيراً عن سبب انخراط البعض في هذه الحوارات الافتراضية، هل هي التسلية أم أنها الحمية، أم أن هدفها إثارة البلبلة وتشتيت ذهن المواطن البريء بقصص خيالية.

هناك حقائق واضحة وضوح الشمس لا تقبل الجدل ولا حتى التشكيك فيها، لذلك يجب أن يتوقف العاقل عن خوض الجدل فيها؛ لأنها تعتبر من المسلمات وليست مجرد افتراضات، ولو ضربنا مثلاً لذلك ببعض الأحداث التي تعصف بمنطقتنا، فسنجد أن الحوار يجب أن يتوقف مع أي طرف يحاول إقناعنا بأن تركيا تتدخل في ليبيا لأغراض إنسانية، أو أن الأسد يحترم شعبه أكثر من احترامه لكرسي الرئاسة، أو أن الحرب في اليمن ليست حرباً إيرانية موجهة ضد المملكة يخوضها الحوثيون بالوكالة، كما أن الحوار يجب أن يتوقف مع أي جهة تلمح إلى أن موقف إيران العقائدي والعدائي تجاه دول الخليج سيتغير بمرور الزمن، أو أن جماعة الإخوان وذيولها في أي دولة هدفهم دعوي وليس سياسياً.

ما قصدته من هذه السطور لا يعني رفضاً لمبدأ الحوار، ولكنه يشير إلى ضرورة عدم الدخول في نقاش فكري مع طرف آخر -قد يكون منظمة أو هيئة أو جهة إعلامية أو ما شابه- تطرح موضوعاً الهدف الرئيسي منه إثارة البلبلة وتسميم أفكار المواطن، فالجهات التي تسعى مثلا لتقديم شخصيات مثل الفقيه والمسعري وغيرهما على أنهم مجرد معارضين لا يهدفون إلا للمعارضة البناءة، ولا يتلقون أي نوع من أنواع الدعم من الجهات المعادية لنا، لا تغويني بالرد عليهم أو حتى تفنيد آرائهم، فمناقشة هذه الفئات يعتبر أحد أنواع المهاترات التي لن تفضي لأي جديد؛ لأنهم إما أنهم لا يعلمون مدى فساد دعواهم أو لأن الجهل بلغ بهم هذا المدى في افتقاد الفطنة، والأجدى من ذلك هو البدء في تأسيس بناء فكري قوي وفعال يعلم الأجيال القادمة القدرة على فهم الواقع جيداً، ويعرفهم كيفية تفنيد الدعاوى الضالة قبل حتى أن تجد طريقاً لعقولهم، وأختتم هذه السطور بالقول المأثور الشهير: ما جادلت عالماً إلا وغلبته، وما جادلت جاهلاً إلا وغلبني.

كاتب سعودي