-A +A
طارق فدعق
هذا المقال عن الفيروسات، ولكن لنبدأ بالعنوان: مصدر الكلمة هو الاتكاء. وترمز إلى مكان الإقامة الذي يتم الاعتماد عليه لمن لا تتوفر لديهم القدرات. و«التكايا» هي جمع التكية.. وقد لعبت أحد الأدوار الإنسانية المهمة في تاريخ الحضارة الإسلامية. كانت تحفظ ماء الوجه، وكرامة الفئات غير المقتدرة.. وذلك من خلال توفير المأوى والغذاء بدون طلب لمن لا يستطيع لأي ظرف كان. وهناك أسس لعمران التكايا ونجدها في العديد من المنشآت الأثرية وبالذات في المدن الغالية مثل مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقدس الشريف، والقاهرة، والخليل، ودمشق. كلها كانت قدوة عالمية للمأوى الإنساني، وكانت قدوة تاريخية لبعض دور الإعاشة الإنسانية في أوروبا والولايات المتحدة. قدمت التصاميم العمرانية المميزة من خلال العديد من المحاور ومنها الحرص على توفير فراغات شبه خاصة لتفادي عزل البشر عن بعضهم البعض. وكما هو المتوقع في هذه الديار، فقد استغلها البعض للإقامة طويلة الأمد لأنها كانت بالمجان، ومن هنا جاء المفهوم الحديث للكلمة بمعنى السكن الذي يتم الاتكال عليه لسهولته. ومن هذه النقطة ننتقل إلى عالم الميكروبات.

أخص بالذكر هنا أشهرها على الإطلاق في العالم اليوم، وهي الفيروسات التاجية الشهيرة باسم «الكورونا». هذه الجراثيم الخبيثة وصلت للبشر عبر مخلوقات أخرى، وتحديداً، فهناك نواقل تسكنها هذه الجراثيم بدون أن تمرضها. «تنطبخ وتتسبك» بداخلها قبل أن تصل إلى الضحايا البشرية. وكما هو الحال للعديد من الأوبئة والجوائح فالجراثيم تنتقل الى ما يسمى «بالوعاء الخازن» وفي حالة فيروس الكورونا فهم غالباً الخفافيش. هذه المخلوقات العجيبة لا تمرض من الجرثومة ولكنها تحملها. وقد حيرت العلماء بسبب كونها أشبه بمفهوم «تكية». وهناك مجموعة أسباب وجيهة جداً قد تفسر تفضيل الخفافيش بالذات وأهمها التالي: أولاً، أنها مخلوقات منتشرة انتشاراً هائلاً فيقدر أنها تمثل ربع ما يعرف على كوكبنا من جميع أنواع الثديات. يعني أشكالها وأنواعها كثيرة جداً لدرجة تفوق الخيال. وثانياً، أنها الثدييات الوحيدة التي تتمتع بالقدرة على الطيران الطبيعي. يعني لديها قدرات هائلة في الانتشار ففي كل ليلة تغطي الخفافيش عشرات الكيلومترات بدون عناء. وثالثاً، أنها اجتماعية جداً فهي تعشق «الوناسة» والتجمعات سواء كانت في حالة الخمول أو خلال حركتها النشطة. في بعض الأحيان تجد الملايين من الخفافيش سوياً. ورابعاً، أن المتوسط العمري لبعض أنواعها تفوق العشرين عاماً، وهذه الفترة الطويلة نسبياً تعطي فرصة للتغير والتطور البيولوجي للفيروس. وأخيراً، فهناك موضوع المناعة، فبعض النظريات في هذا الشأن تدعي أن السبات الشتوي لهذه الكائنات يجعل تحملها لدرجات حرارة منخفضة من أسباب تحملها للتغير الأحيائي للفيروسات بداخلها... كل هذا يجعل الخفافيش «تكية» بيولوجية مثالية.


أمنيــــــة

نعيش الآن لحظات تاريخية مفصلية.. هناك مجموعة سباقات لإيجاد الحلول لمواجهة تحديات «الكورونا». وكل من تلك السباقات تحمل فلسفة مختلفة، وأسلحة، وذخائر مختلفة. تأكد أن بعضاً منها تدرس تفاصيل «تكية» الفيروس، وهي غالباً الخفافيش في شرق آسيا. أتمنى أن يفلح العالم في التغلب على هذه الجائحة الكبرى بمشيئة الرحمن، وهو من وراء القصد.

* كاتب سعودي