-A +A
محمد مفتي
لطالما كان الدكتور عبد الله النفيسي حريصاً على إبداء رأيه في الكثير من القضايا الإقليمية والدولية، وخلال مسيرة حياته العلمية كأستاذ للعلوم السياسية بجامعة الكويت، ثم نائب في مجلس الأمة الكويتي -سابقاً- لم تخلُ تصريحاته من العدائية تجاه حكومات المنطقة بصفة عامة وضد دول الخليج بصفة خاصة، وقد ظهر النفيسي مؤخراً عبر قناة القبس الكويتية لسرد وقائع مسيرته العلمية والسياسية، وخلال ما يربو على الثلاثين حلقة هاجم بعض رموز المنطقة بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى، وخلال تتبعي لحديثه في برنامج «الصندوق الأسود» -وهو أسود بالفعل قلباً وقالباً- وجدتني أتفق معه في القليل وأختلف معه تماماً في الأكثرية، وخلال فترة مشاهدتي للبرنامج كان هناك سؤال تحيرني إجابته: ماذا يريد تحديداً الدكتور عبد الله النفيسي؟.

في واقع الأمر تبين لي بعد فترة من متابعته أنه ليس أكثر من شخصية بلا ملامح، فشخصيته متناقضة جدلية تعتمد على جهل المتلقي غير القادر على تمحيص الأفكار، وخلال مقارعة مقدم البرنامج عمار تقي لبعض حججه، وجدت أن الكثير من مصادر إجاباته تنم عن غموض تام، فلطالما ردد: «هكذا علمت، أو هذا ما أخبرني به هذا أو ذاك»، وقد بدا لي أن النفيسي شخصية تعادي نفسها وتغير مواقفها من وقت لآخر طبقاً لتجارب آنية.


من المؤكد أنه لا يسعني دحض كل قضية تناولها النفيسي، غير أني سأتناول قضية واحدة فحسب تحوي على الكثير من المغالطة والتجهيل للمستمع، وهي القضية المتعلقة بفترة احتلال القوات العراقية للكويت؛ حيث شن هجوماً لاذعاً على الحكومة الكويتية لمغادرتها الكويت، مشدداً على أن مغادرة الشيخ جابر -رحمه الله- للكويت تعد أمراً طبيعياً، غير أنه كان يجدر بالحكومة الكويتية بكامل أعضائها برئاسة الشيخ سعد العبد الله الصباح -رحمه الله- البقاء بالكويت لإدارة أمور الاحتلال من الداخل.

لا أعلم لمَ يتناسَ النفيسي أن أهم أولويات أي حكومة احتلال تصفية رموز الدولة المحتلة، وقد ذكرت العديد من الأدبيات العراقية -على سبيل المثال الفريق رعد الحمداني المنتسب للحرس الجمهوري العراقي الذي تولى قيادة إحدى فرق عملية الاحتلال- أن القبض على أعضاء الحكومة الكويتية كان من أهم أولويات حكومة الاحتلال، وقد أصدر بالفعل صدام حسين أوامر صريحة لقواته بالقبض على رموز حكومة الكويت؛ ويرى الكثير من المحللين أن الرئيس العراقي الأسبق أراد استنساخ تجربة عبد الكريم قاسم في ثورة تموز 1958 حينما قام بإعدام جميع رموز الحكم وقتذاك لخلق فراغ سياسي، ولمحو فرضية الثورة المضادة، ومن المؤكد أنه لو نجح صدام في ذلك لم تكن الكويت لتجد من يحشد الرأي العام العالمي ضد القوات الغازية.

ويذكر النفيسي أنه تلقى اتصالاً هاتفياً من فيصل الصانع -نائب سابق بمجلس الأمة الكويتي- والذي أخبره بطلب حكومة صدام بأن يتم تشكيل حكومة كويتية مؤقتة يكون الصانع رئيساً لها والنفيسي أحد أعضائها، وقد رفض كل من الصانع والنفيسي هذه الفكرة تماماً، ويذكر الأخير أنه أخبر الصانع أن الأسماء الواردة في حكومة الاحتلال ستكون الهدف المقبل، ولذلك يتعين عليهم جميعا الاختفاء تماماً، غير أن الصانع تريث في فكرة الرحيل من الكويت حيث ألقت القبض عليه القوات العراقية ولم يظهر له أثر حتى كتابة هذا السطور، غير أنه يتبين لنا مما ذكرناه آنفاً مدى مناقضة النفيسي لنفسه؛ ففي الوقت الذي يلقي اللوم على أعضاء الحكومة لخروجهم للمملكة، نجده ينصح الرموز الكويتيه بضرورة الاختفاء، ثم يغادر الكويت إلى المملكة بهوية مزورة ويبرر خروجه إلى السعودية بأنه كان بناءً على طلب من الشيخ سعد.

من البديهي أن تبقى أي حكومة في بلادها لتدير أمور الحرب، وذلك بشرط ألا تكون الدولة نفسها محتلة بالكامل، ولكن عندما تكون الدولة محتلة بالكامل فإنه من المنطقي أن تدير الحكومة الأزمة من الخارج، والأمثلة على ذلك كثيرة أشهرها ما حدث خلال احتلال هتلر لفرنسا بالكامل خلال الحرب العالمية الثانية، حينما توجه شارل ديجول وقياداته وقتذاك إلى بريطانيا لتشكيل حكومة منفى، ثم تحالف مع الدول العظمى كبريطانيا والولايات المتحدة وتمكن بذلك من تحرير بلاده من براثن الاحتلال الألماني.

من المؤكد أن الاختلاف في وجهات النظر مع ولاة الأمر أمر وارد ومسموح به لتعزيز مفاهيم الشفافية، ولكن هناك بون شاسع بين الاختلاف وبين تأليب الشارع العام، فالتأليب ضد ولاة الأمر وهدم أركان الدولة خط أحمر، فهو أمر ينذر بفتح الباب على مصراعيه للمفاسد وتقويض الأمن والاستقرار، وهو عبث بمستقبل الشعوب لا تسامح فيه، والتصريحات العدائية للنفيسي جزء لا يتجزأ من شخصيته التي يتعذر استكناه بواطنها، فهى غارقة في تناقضاتها وحبها للشهرة ولعبها على وتر الدعاية الشعبوية الممجوجة، فأصدقاء النفيسي اليوم هم أعداء الأمس، وحلفاء الغد هم ألد أعداء الماضي، والرابط بين كل هذه التحولات التاريخية يكمن في رغبة النفيسي الجامحة في السباحة عكس التيار.

* كاتب سعودي

Prof_Mufti@

dr.mufti@acctecon.com