-A +A
صدقة يحيى فاضل
نذكر بأنه واحد من أبرز وأدهى ساسة القرن العشرين الماضي، ليس لأنه الثعلب المخضرم هنري، ولكن لأنه كان وزيراً لخارجية أمريكا؛ الدولة العظمى الأولى، في مرحلة من تاريخ العالم شهدت (بمشاركته) الكثير من التحولات السياسية الأهم في ذلك القرن -كما هو معروف-.

أسهم في جعل نصف القرن العشرين أمريكيا، وشارك في صياغة الاستراتيجية التي تهدف لجعل القرن الواحد والعشرين أمريكيا أيضا.. إنه الدكتور هنري كيسنجر، الذي جمع بين علم السياسة والعلاقات الدولية، وممارسة السياسة، فهو الحاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد عام 1954م، والأستاذ في نفس الجامعة وغيرها.


لكيسنجر، كأكاديمي ناجح، عدة كتب ومقالات علمية سياسية، لعل أبرزها كتابه المعنون «السياسة الخارجية الأمريكية» الذي كان من أبرز المراجع والكتب الجامعية المعتمدة في الفترة من 1970- 2000م بأمريكا وغيرها. ويصنف كيسنجر -أكاديمياً- بأنه من أعلام المدرسة التقليدية في دراسة العلاقات الدولية؛ وهي المدرسة التي غالباً ما تخلط بين «القيم» و«الحقائق» في دراستها للعلاقات الدولية، وخاصة عندما تركز تحليلها على «ما يجب أن يكون». ونشر عام 2014م كتاباً هاماً جديداً بعنوان «النظام العالمي».

ولد هاينز الفريد كيسنجر يوم 27/‏‏5/‏‏ 1923م، في مدينة «فيورث» بألمانيا. ونزح وأهله إلى أمريكا عام 1938م. وحصل على الجنسية الأمريكية عام 1948م. شغل منصب «مستشار الأمن القومي» في الفترة 1969- 1973م. ثم منصب وزير الخارجية في الفترة 1973- 1977م. منح جائزة نوبل للسلام عام 1973م، بالمشاركة مع «لي دك ثو» المفاوض الفذ عن الجانب الفيتنامي، بعد التوصل لاتفاق سلام بين أمريكا وفيتنام.

ولعل أهم إنجازاته السياسية هي: المساهمة في الانسحاب الأمريكي من فيتنام، فصل القوات العربية الإسرائيلية عام 1974م، ترتيب زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون للصين (التي نجم عنها في ما بعد اعتراف أمريكا بالصين)، معاهدة الحد من التسلح مع الاتحاد السوفيتي (SALT)، إضافة إلى دوره غير الموفق والمنحاز في مساعي تسوية الصراع العربي ــ الإسرائيلي. ومنذ تركه لمنصب وزير الخارجية، في عام 1977م، عاد كيسنجر جزئياً للعمل الأكاديمي، فعمل محاضراً في عدة جامعات.

****

ومن حين لآخر، يدلي كيسنجر بتصريحات صحفية، أو ينشر مقالات ساخنة، تحظى بتغطية إعلامية عالمية واسعة، وباحتفاء المراقبين السياسيين حول العالم، لما لكيسنجر من مكانة علمية وسياسية كبيرة. ومن ذلك، المقال الذي نشره مؤخرا (يوم 3 أبريل 2020م) بصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، متحدثا عن تداعيات جائحة كورونا، وما سيكون عليه العالم بعدها. ونتطرق في هذه العجالة لنقطتين فقط مما أورده في مقاله المذكور، هما: مواجهة الدول الحالية لجائحة كورونا، وتغير «النظام العالمي».

وعادة ما ينطلق كيسنجر في دراسته وتقويمه للعلاقات الدولية التي يهتم بها من فلسفة سياسية تقليدية معينة، وقابلة للتحديد. ومن كونه غربياً أمريكياً، يعتقد أن أمريكا يجب أن تسود العالم، أو تحكمه ما أمكن.

أصاب كيسنجر عندما ذكر أن مواجهة الدول الحالية، وخاصة الكبرى والمتقدمة، لوباء كورونا كانت -وما زالت- عشوائية ومتشرذمة. وذلك أثبت ضرورة «إصلاح» النظام العالمي الراهن، عبر: دعم التضامن الدولي في مواجهة الكوارث، سواء الطبيعية أو غيرها، في مؤسسات الدول الكبرى، الحكومية وغير الحكومية. فقد ثبت عدم نجاح هذه المؤسسات في مكافحة جائحة كورونا بالتعاون الدولي اللصيق اللازم، وعدم قدرتها على مواجهة الأزمات الطارئة المختلفة. وهذا مما يثير التساؤلات حول الرأسمالية والعولمة، ويؤكد ضرورة إجراء إصلاحات وتعديلات جذرية فيهما.

****

أما بالنسبة للنظام العالمي الذي يقول كيسنجر إنه سيتغير، فربما يكون قد فات عليه أن النظام العالمي لا يمكن أن يكون ثابتا، فهو في حركة تغيير حتمية متواصلة. وأن حتمية «التغيير» تصيب «النظام العالمي» مثلما تلحق بأي واقع سياسي واجتماعي واقتصادي آخر. فظهور وتبلور نظام عالمي معين، يعني أن ذلك النظام قد جاء نتيجة لقانون التغيير والتطور، ليعقب نظاما عالميا غابرا... ويحل محله. ثم لا بد أن يحين الوقت الذي يخلي النظام العالمي فيه المكان لنظام عالمي آخر.. وهكذا. وفي الواقع، فإن الفترة التي يستمر خلالها النظام العالمي، تختلف من نظام عالمي لآخر، تبعا لتغير الظروف، التي تلد الأنظمة الإقليمية والعالمية، بل والمحلية، فالتفاوت في الاستمرارية ينتج عن اختلاف وتنوع الظروف.. ونكمل هذا الحديث لاحقاً.

* كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com