مذ كنا صغارا واسم الوزير المتجرد حتى من «المشلح الرسمي» يملأ آذاننا.
وقصته مع بوابة القصر الأحمر حين أراد الدخول بهيئته المتواضعة فرفضت الحراسة دخوله فلم يزد أن قال أنا صالح الحصين، وكان للتو آنذاك قد صدر قرار توزيره وزير دولة، إلا أنه كان أيضا قد تحمل مسؤوليات هامة في هيئة الخبراء ثم رئيسا لهيئة التأديب وبعد ذلك دخل للقصر بعد أن أشعرت البوابة أنه الوزير التي لم يرغب في إطلاقها على نفسه إنه وزير!
لم يلهث وراء المناصب بل عزف وصد عنها صدودا.
كانت الدنيا تأتيه وهي راكعة مطأطئة فيرفضها ويعرض عنها.
كان زاهدا ليس عبر محاضرات أو تمتمات أو كلمات ولكنه واقع فريد يذكر بالحسن البصري وإبراهيم بن أدهم وابن المبارك رحمهم الله.
إنه الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين، رحمه الله، الذي كانت تتوق نفسي للجلوس معه والحديث والإنصات إليه حتى سنحت لي الفرصة الغالية سنة 1420هـ، وكنت أتنقل في عدد من المناطق والأماكن ألتقي العلماء وأحاور الدعاة في برنامج إذاعي بث عبر إذاعة القرآن الكريم في موكب الدعوة، فبحثت وبذلت جهدي حتى عثرت على رقم هاتف الشيخ صالح الحصين وكان آنذاك قد جاور قرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له همة سوى الصوم والصلاة والحج ومتابعة المشاريع الخيرية والوقفية التي كانت شغله الأهم.
اتصلت به وأعطاني وصفا لبيته ولما قدمت المدينة سألت فإذا بي أمام عمارة قديمة متواضعة فصعدت إلى شقته وفتح الباب وجلسنا على الأرض سويا منصتا تعتريني نشوة كبرى حين يتحقق حلمي وأمنيتي بالجلوس مع هذا العالم الشرعي السربوني الكبير.
فاتحته باستحياء حيث لا أستطيع أن أتحدث إليه مباشرة وأطلق عيني في محياه الصالح وهو يناولني الشاي الذي أصلحه بنفسه، حيث أبديت له عدم رغبتي في أي شيء فأصر على مناولتي الشاي وهو يقدمه بنفسه.
لم أتمالك نفسي وأنا أجالس وزيرا يعيش ضرب الزهد والتقشف في أعظم صورهما.
حاولت بإلحاح شديد إقناعه في التسجيل معي عن حياته وسردت عليه عددا من أسماء العلماء الدعاة الذين قابلتهم فابتسم وقال أولئك يستحقون ولديهم ما يحسن قوله والاستماع إليه أما أنا فلا شيء عنده والله المستعان.
لكنه بلطفه مع شاب توجه إليه بشغف ليستمع ولو إلى طرف من حياته. قال لي سوف «أسولف» معك لكن بدون تسجيل فقص علي شيئا من بداياته ودراسته وكنت أقاطعه في كل حديث شغفا وحبا في المعلومة واستطرادا ونهما في الحديث وإذا بأذان الظهر يؤذن من المسجد النبوي الشريف وسألني هل توضأت ؟ فاستأذنته بالوضوء ثم خرجنا سويا نمشي إلى المسجد النبوي الشريف شعرت خلالها بتسارع الوقت على الرغم من بعد المسافة نسبيا، لكنني فوجئت أننا وصلنا بسرعة إلى المسجد النبوي ثم ودعني وافترقنا ليبحث هو عن مكان يتوارى فيه يؤدي الصلاة.
كان مشهدا بحق لا يمكن وصفه مع هذا العالم الجليل الذي أحسن اختيار الهدف وهو الدار الآخرة على الدنيا الفانية.
وتذكرت آنذاك الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذي طلق الدنيا ورماها من فيه وأقبل على ربه رغم أنها كانت بين يديه ورجليه راقدة أي الدنيا، فلما حضرته الوفاة دعا زوجته فاطمة وأخاها مسلمة أن يخرجا.
فسمعا صوتا يقرأ «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعافية للمتقين» ثم فاضت روحه رحمه الله.
إنها حياة الشيخ صالح الحصين الذي نهل من العلماء وارتوى من معين الأدباء في القاهرة ومصر إبان ازدهارها في الخمسينات الميلادية.
ثم تطلع ليكون القانوني الأول من السربون متقنا الفرنسية متحدثا الإنجليزية متأبطا علومه الشرعية.
عاش حياته باذلا للعلم مؤثرا الآخرة على الدنيا متخففا من كل شيء حتى من المأكل والمشرب.
إنها حياة ملأى بالدروس لذواتنا ومجتمعنا فكان ناجحا رحمه الله في كل مهمة أنيطت به، قاد بدايات التنمية في الصناديق الحكومية وعلى رأسها صندوق التنمية العقاري حيث وضع أسسه وخطط لأهدافه محققا تطلعات ولاة الأمر وقيادة البلاد.
لم يخطئ حدس خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، في هذا العالم الناصع بياضا في نقائه وصلاحه لينجح في إقناعه مرة أخرى وبعد سنوات طويلة من الانقطاع عن العمل الحكومي ليقود مفصلا مهما من مفاصل الدولة السعودية وهو تجربة الحوار الوطني.
إذا كانت رغبة ونية وهدف خادم الحرمين الشريفين أدت إلى نجاح الحوار فإن تطبيقات ورؤى الشيخ صالح الحصين كانت مفتاح النجاح لحوار صار محط الأنظار وتجربة استحقت التقدير بإتقان.
إضافة إلى مسؤوليته الأخرى في الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي حتى طلب الإعفاء منها.
رحم الله الشيخ صالح الحصين الزاهد العابد الورع المخلص لمجتمعه وأمته وولاة أمره، أسكنه الله فسيح جناته وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
فاكس: 014645999


d-almushaweh@hotmail.com