-A +A
عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان
يأتي الملك عبدالعزيز يرحمه الله تعالى في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري لينضم إلى قائمة الخلفاء والملوك الذين أبدوا عناية خاصة بالأماكن التاريخية المأثورة في مكة المكرمة، وسجل لهم التاريخ دوراً حضارياً غير مسبوق في توظيف هذه الأماكن فقد نشرت صحيفة «البلاد» في عددها رقم 998 للسنة الخامسة عشرة الصادر يوم الأحد 25 جمادى الأولى 1370هـ الموافق 4 مارس 1951م:

مدرسة ومكتبة في الأماكن التاريخية:

«تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فمنح سعادة الشيخ عباس قطان الأرض البيضاء المعروفة بدار السيدة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها لإقامة مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم على أنقاض الدار.

كما تفضل فمنحه أيضاً المكان الذي ولد فيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لبناء مكتبة ضخمة يؤمها رواد العلم وطلابه، ويشرع هذا الأسبوع بالبناء حسب التصميم الذي وضع لذلك».

كانت هذه لفتة كريمة، ومأثرة عظيمة من جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى في الحفاظ على إرث الأمة، وتراثها، مما يحسب له في موازين تعظيم الآثار النبوية، وإعطائها حقها الذي يفرضه انتسابها إلى سيد البشر صلى الله عليه وسلم.

اتخذت الخطوات الرسمية العملية لتحقيق هذه الرغبة الملكية الكريمة، فوثقت بالمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة توثيقاً شرعياً بالصك رقم 140 بالمجلد الرابع، تاريخ 25/6/1373هـ، السجل 140. هذا فيما يخص موضع مولد النبي الشريف، وصدر أيضاً صك من المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة بخصوص وقفية دار أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها كلاهما لدى رئيس المحكمة الشرعية الكبرى العلامة الفقيه فضيلة القاضي الشيخ عبدالله بن عمر بن دهيش رحمه الله تعالى رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة، وصدق الصكان من قبل رئاسة القضاة، ووردت فيهما العبارات التالية:

«لدي أنا عبدالله بن عمر بن دهيش رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة حضر أمين بن الشيخ عباس قطان الوكيل عن عمته المصونة فاطمة بنت يوسف قطان بموجب صك التوكيل... وقرر على طريق الإنهاء قائلاً:

إن موكلتي المذكورة كانت تقدمت بطلب من الحكومة السنية السماح لها بإنشاء مكتبة بالموضع المعروف بمولد النبي صلى الله عليه وسلم بشعب علي بمحلة سوق الليل، الشهير في محله شهرة تامة تغني عن تحديده ووصفه، وبعد الإجراءات الرسمية صدر قرار الرئاسة برقم 525/23 في 14/4/1370هـ بالموافقة على الطلب المذكور؛ لأنه عمل خيري، على أن يجري تسجيل الوقفية بالمحكمة الكبرى عند تمام البناء، وأن يكون مكتبة عمومية موقوفة بجميع أبنيتها، ومحتوياتها لجميع المسلمين، وقد حاز القرار المذكور موافقة صاحب السمو الملكي نائب جلالة الملك المعظم المبلغ إلى أمانة العاصمة برقم 3068، وتاريخ 11/5/1370هـ، وصورة من ذلك إلى مقام رئاسة القضاة...

وقد اشترطت بوقفيتها شروطاً... منها:

«أنها لا تؤجر الدار المذكورة، ولا تباع، ولا توهب، ولا يستبدل بها، بل تبقى قائمة على أصولها، كما أنها اشترطت أن الكتب التي فيها لا تخرج عنها، وشرطت عدم الاستغلال حاضراً، ومستقبلاً إذا اندثر البناء في غير ما منح من أجله، ولا من ورثته، ولا أي أحد، ... فعلى مقتضى البينة المعدلة حسب الأصول ثبت لدي أن فاطمة بنت يوسف قطان أنشأت بمالها المباني المذكورة بعاليه، فقد أجزت الوقفية المذكورة على الشروط المذكورة، وأمضيته، وأمرت بتنظيم صك بها تحريراً في اليوم الخامس والعشرين من شهر جمادى الثانية عام الثالث والسبعين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة من له العز، والشرف صلى الله عليه وآله وسلم».

رئيس المحكمة الكبرى بمكة - ختم فضيلته

أما ما كان بخصوص دار أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها فقد صدر بوقفيته صك صادر من المحكمة الشرعية الكبرى رقم 142، تاريخ 25/6/1373هـ، وردت فيه العبارات التالية:

«الحمد لله وحده.. لدي أنا عبدالله بن عمر بن دهيش رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة حضر أمين بن الشيخ عباس قطان وقرر على طريق الإنهاء قائلاً: إن والدي الشيخ عباس بن يوسف قطان حال حياته طلب من الحكومة السنية منح الأرض البيضاء المعروفة بدار السيدة خديجة الكبرى، وبمولد السيدة فاطمة الكائنة بمحلة القشاشية المعروف بمحلها الشهيرة شهرة تامة تغني عن تحديدها لإنشاء مباني مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم من خيرات والده الشيخ يوسف قطان، وقد صدر أمر حضرة صاحب السمو الملكي النائب العام لجلالة الملك المعظم إلى أمانة العاصمة برقم 711 في 24/7/1366هـ بالموافقة على الشروط التي أقر المقام السامي بها في الخصوص المذكور، وأرسلت صورة من الأمر الكريم المعطى إليه إلى والدي، وأشعرت وزارة المالية، ومقام رئاسة القضاة بصورة منه، ووالدي بصفته وصياً مختاراً من قبل والده الشيخ يوسف قطان على الخيرات والمبرات من مخلفات والده بموجب الصك الصادر من المحكمة الكبرى برقم 120 في 9/2/1351هـ قد قام حال حياته بإنشاء المباني للمدرسة المذكورة على الأرض المذكورة من وصاية والده للخيرات التي كانت تحت يده، لاملك ولا حق فيها، وعاجلته المنية قبل تسجيل هذه الوقفية لدى الجهات الرسمية، وحيث إن المباني المذكورة مشتملة على أماكن علوية وسفلية، ومنافع، ومرافق، ومشتملات شرعية، وحوش.

محدودة شرقاً بالزقاق النافذ المعروف بزقاق الحجر، وغرباً بالقبان، وشاماً وقف بيت سنبل، ويمناً ملك الأشراف قديماً، وحديثاً ملك حسن طلاقي وأولاده، وقد شرط في هذه الوقفية شروطاً جعل العمل عليها، والمصير إليها منها:

«أنها لا تؤجر الدار المذكورة ولا تباع، ولا توهب، ولا تعار، ولا يستبدل بها بل تبقى قائمة على أصولها..».

إلى أن يذكر رئيس المحكمة الكبرى رحمه الله تعالى قوله: «فعلى مقتضى البينة المعدلة حسب الأصول ثبت لدي أن عباس بن يوسف قطان أنشأ من مال والده يوسف قطان الأبنية المذكورة بعاليه فقد أجزت الوقفية المذكورة على الجهات المذكورة، وأمضيته، وأمرت بتنظيم صك بها تحريراً في اليوم الخامس والعشرين من شهر جمادى الثانية عام الثالث والسبعين بعد الثلاثمائة والألف..». ختم رئيس المحكمة الكبرى

أقدم جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى على هذه الخطوات المباركة بعد استشارة كبار العلماء السلفيين الوسطيين، وهو ما سجله له التاريخ توثيقاً، وحقيقة قائمة، ليس هذا غريباً فإن عمله هذا رحمه الله تعالى يأتي استكمالاً واستمراراً لعمل الخلفاء والولاة المسلمين من سلف هذه الأمة في الحفاظ على تراث الأمة، وإرثها الذي تعتز به الأجيال، وتذكرهم عياناً بماضي أمجاد الإسلام، وجهاد تلك الأجيال الفاضلة..

يسجل الزميل الكريم الأستاذ عبدالرزاق بن العلامة السلفي المحدث خطيب المسجد الحرام وإمامه الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة رحمه الله تعالى بداية العمل في تأسيس مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في هذا المكان المبارك قائلاً: «... وكنا قد عرفنا قبل ذلك أن هذا هو محل دار أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وعن بقية أمهات المؤمنين، وهي الدار التي ولدت فيها السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وبعد فترة من الزمن رأيت عمالاً يحفرون في هذا الموقع لعمل أساسات لمبنى جديد، وقد اتضح وجود مبنى كامل فيه مسجد تحت مستوى الشارع، ولابد أن التي تحيط بالدار هي التي ارتفعت بسبب السيول، وغيرها، المهم أنه شيد مبنى جديد في نفس الموقع، وشغلته مدرسة لتحفيظ القرآن، وهو أفضل استغلال لهذا الموقع التاريخي بما قيض الله له من أهل الخير، من فكر، هذا التفكير السليم، وفي نفس الفترة في أواسط الستينات الهجرية، وأواخرها كان مع دار الأرقم بن أبي الأرقم بالصفا (دار الإسلام)، وهي أول مدرسة في الإسلام، وفيها أسلم من فرق الله به بين الحق والباطل، الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قصة أخرى حيث إنها تقع في زقاق متفرع من المسعى على يسار الذاهب إلى الصفا، وهذا الزقاق يبعد عن جبل الصفا بحوالى الخمسين متراً زقاق الخيزران، أما دار الأرقم فكانت تبعد عن المسعى بنحو مائة متر، وهي قريبة من دور سدنة الكعبة المشرفة آل الشيبي، وكانت عبارة عن دار مكونة من دور واحد، ومبنية على نفس طراز بناء الحرم القديم من الأعمدة والعقود، وكانت مهجورة.

وقد قيض الله لها فضيلة إمام الحرم المكي الشيخ عبدالظاهر أبوالسمح، ونائبه فضيلة الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة فطلبا من الملك عبدالعزيز يرحمه الله منحها لتكون مقراً لمدرسة دار الحديث التي سبق وأن أسسها عام 1353هـ فوافق الملك عبدالعزيز على ذلك، وسلمت لهما، ولما كانت دوراً واحداً لا يزيد على أربع غرف، وهذا لا يكفي لاستيعاب المدرسة فقد تبرع أحد فاعلي الخير ببناء دور ثان على دورها الأرضي، وقد كان لوجيه جدة الشيخ محمد حسين نصيف الذي كان يتعاطف كثيراً مع هذه المدرسة دور كبير في هذا العمل، ولكن هذا الدور المضاف لم يأت متناسقاً مع الدور الأرضي؛ ذلك أن الدور الأرضي كان مبنياً كما أسلفت على الطراز الإسلامي ذي الأعمدة والعقود، أما الإضافة فجاءت على الطراز الحديث الإسمنتي، وهكذا ظهر البناء كمن يلبس ثوباً وعباءة ويضع فوق رأسه قبعة، واستمرت مدرسة دار الحديث تشغل هذا المبنى الأثري محيية ذكراه الطيبة حتى جاء مشروع توسعة الحرم فهدم هذا المبنى عام 1375هـ، ومكانه الآن في الشارع الواقع بين الصفا وجبل أبي قبيس...».(1)

إننا نجد ما يؤكد هذه الرواية التي ذكرها الزميل الفاضل الأستاذ عبدالرزاق حمزة حفظه الله فيما سطره العلامة السلفي مسعود عالم الندوي في كتابه (شهور في ديار العرب) عن رحلته إلى المملكة العربية السعودية، حيث حل ضيفاً على حكومة جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى في الثامن من ذي القعدة عام 1368هـ/ الأول من سبتمبر 1949م (شهور في ديار العرب) قائلاً في سياق سرد انتهائه من طواف الوداع:

«بعد الطواف رغبت في السلام على الشيخ أبي السمح، وحين وصلت إلى باب (دار الحديث) وجدت مولانا عبدالوهاب الدهلوي قادماً من مقر إقامتي، وكان قد ذهب لزيارتي، وكان برفقته محمد بن عبدالرزاق حمزة فجلسنا معاً نتحدث في موضوعات مختلفة، كان الشيخ أبوالسمح قد ذهب إلى دار الأرقم، ويقال إن هذا المبنى الخاص بدار الأرقم بني في بداية العهد العباسي، ولهذا فإن مكانته التاريخية حقيقية وثابتة، وقد أخذ الشيخ أبوالسمح هذا المبنى لدار الحديث، وهناك فكرة لبناء مبنى رائع، وضخم في هذا الموقع، وللأسف لم أتمكن من زيارة (دار الأرقم) الدار التي كان يرابط فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من الفدائيين الأوائل، وإن شاء الله أزورها بعد العودة من المدينة المنورة بصحبة مولانا عبدالوهاب، فهو من أشهر علماء آثار مكة المكرمة، وهو أيضاً مسؤول المالية في لجنة دار الحديث.

وبمناسبة (دار الأرقم) ذكر الشيخ محمد بن عبدالرزاق رأيه فيما يتعلق بالأماكن التاريخية في مكة، يقول: يجب الإبقاء على جميع هذه المباني، وجعلها مقراً للإدارات، والهيئات العلمية والدينية، وكان من الضروري هدم القباب، ولكن لا معنى لإهمال تلك الأماكن ذات الصلة بالحياة الأولى للدعوة الإسلامية..».(2)

هذا هو الفكر الوسط المستنير في التعامل مع هذه الأماكن التاريخية، إزالتها اعتداء على التاريخ، ومشاعر المسلمين، وتقديسها بصورة تتنافى مع العقيدة الصحيحة أمر مرفوض، والعلاج لهذه الظاهرة التي يمارسها بعض جهلة الحجاج من خارج البلاد يكون بالتوعية المفيدة المكثفة عن طريق تنظيم جموع الزائرين لمشاهدة هذه الأماكن بقيادة دليل يرشدهم، ويعرفهم بتاريخ الإسلام ونشوئه على رحابها، ومحاربته لكل المظاهر التي تتنافى مع التوحيد الخالص الذي ينبغي أن يتحلى به المسلم في تعامله مع الآثار، وتزويدهم بالمعاني التاريخية السامية المقصودة من المحافظة والإبقاء عليها.

التوعية هي الحل السليم، وهي فيما بعد درس مفيد لكل من قصد زيارة هذه الأماكن التاريخية، خصوصاً بعد عودة الحجاج، والمعتمرين إلى أوطانهم.

إن توظيف هذه الأماكن التاريخية بطريقة عقلانية، وأسلوب حضاري، يحفظ للمكان قدره، ومكانته التاريخية، وجلاله ووقاره في نفوس المسلمين لما له من علاقة قوية بتاريخ الدعوة الإسلامية التي تخالط مشاعرهم وتعيش حية في عقولهم وعواطفهم، يحسب الحفاظ على هذه الأماكن التاريخية في موازين جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله، ثم أولئك العلماء الذين أخلصوا مشورته، وأثبتوا بسلفيتهم الصادقة، المخلصة أنهم أصحاب أفق واسع، ودراية بمآلات الأمور يدركون أهمية هذه الأماكن التاريخية، وأثرها الكبير على توجيه الأجيال، وإذكاء روحها بمعاني الإيمان.



(1) جريدة عكاظ، السنة الأربعون، العدد 11569، السبت 28 ذوالحجة عام 1418هـ الموافق 25 إبريل، عام 1998م.

(2) ترجمة سمير عبدالحميد إبراهيم، الطبعة الأولى، الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز، عام 1422/ 2001، ص495.