-A +A
عدنان الشبراوي، تماضر الرحيلي «جدة»

أي قلب يملكه هؤلاء الأبناء الذين يمارسون العقوق على والديهم وأي وعيد وعقاب ينتظرهم نظير ما قاموا به من إجرام بحق أمهاتهم وآبائهم، فبرغم صدور أحكام في قضايا عقوق والدين إلا أن رحمة زرعت في قلوب الأمهات تحد من تطبيق الأحكام حيث تتراجع 95% من الأمهات الشاكيات ويقررن التنازل عن حقهن في الدعوى بمجرد الحكم بسجن ابنها وتطالب عادة من المحكمة أخذ التعهد عليه.





وثمة تأكيدات أن ما يصل المحاكم وهيئة التحقيق والادعاء العام هي حالات لا تعكس حقيقة الواقع، حيث إن كثيرا من حالات العقوق لا تصل للجهات المختصة خشية الفضائح ودرءا لتفاقم الأمور إضافة إلى عدم قدرة أمهات طاعنات في السن من التواصل مع الجهات المختصة لتبقى بعض الأمهات على أمل «أن ينصلح الحال».

وثمة قصص مدوية يندى لها الجبين في ملف عقوق الوالدين، حيث توفيت مريضة بالفشل الكلوي بعد أن عانت إهمالا من ابنها حتى انه تركها في ثلاجة الموتى عدة أيام، وشاب آخر رفع السكين في وجه أمه لتهرب من أمامه وتغلق الباب، وآخر مدمن مخدرات تجرد من ملابسه أمام والديه وتلفظ عليهما بألفاظ تقشعر لها الأبدان.

سجن حتى الرضا

وسجل القضاء نماذج لقضايا عقوق منها حكم بالسجن على عاق حتى يرضى عنه والده ووالدته إضافة إلى ألفي جلدة بحق عاق وهو شاب ثلاثيني هدد والده بالقتل وظل يكرر ألفاظا مشينة ونابية بحق والدته مهددا بتعرية شقيقاته وهتك أعراضهن في حين ثبت للمحكمة انه تجرد من ملابسه أمام والديه متجردا من كل قيم أو حياء أو دين، و تكررت تهديداته لإخوانه وزوجاتهم بالقتل، وجاء في سياق الحكم أن لا يشمله عفو إلا بموافقة والديه، وقدم المدعي العام تهمة المغالاة في العقوق للشاب فضلا عن تناول المسكرات والاعتداء على والده بالضرب وتهديدهم بالسكين وإظهار عورته أمامهم فضلا عن إساءته لإخوانه وأبنائهم وزوجاتهم ومحاولته الاعتداء عليهم.

وشدد المدعي العام أن الشاب مغالٍ في العقوق وسبق أن دخل السجن وخرج منه في نفس الجريمة إلا انه لم يرتدع.

وأصدرت محكمة جدة وحدها العام المنصرم نحو 343 حكما في قضايا إيذاء أو عقوق أحد الوالدين، فيما مازالت نحو 200 قضية منظورة ولم تصدر فيها أحكام، وانهت اكثر من 90 قضية صلحا وشطبت 30 قضية لعدم مراجعة الخصوم، وينظر المكتب القضائي الواحد نحو 15 قضية شهريا بمتوسط 250 قضية شهريا وهو رقم وصف انه كبير جدا.

عقوق عائلي

وتسلمت محكمة جدة الجزائية قضية قدمتها أم تطلب معاقبة ابنها بتهمة عقوقها وعدم طاعتها وتجاهلها فضلا عن عدم احترامها والتلفظ عليها بألفاظ غير لائقة ورفع الصوت والبصق عليها، وقالت الأم المدعية في لائحة الدعوى – حصلت «عكاظ» على نسخة منها – إنها وصلت إلى طريق مسدود مع ابنها العاق 26 عاما – وقد وجه القاضي بإيقاف الشاب لحين إصدار الحكم.

أخرجوه من السجن

وتقدمت مواطنة ستينية إلى المحكمة تشكو عقوق ابنها والتهجم عليها ومحاولة ضربها فأمر القاضي على الفور بإيقافه، وعلى الفور بكت الأم وتنازلت عن حقها تجاه ابنها الذي أدين، وقالت لناظر القضية وهي تبكي «أنا سامحته، طلعوه من السجن».

وعاقبت المحكمة الجزائية في جدة شابا بسجنه عاما وجلده 600 سوط لإدانته بعقوق والدته والتلفظ عليها، وقنع الشاب والمدعي العام بالحكم، وأحيل لجهة التنفيذ.

وروت مواطنة تقدمت بشكوى ضد ابنها، تتهمه بالعقوق، وعدم إنفاقه عليها ويتلفظ عليها بألفاظ غير لائقة، وحققت هيئة التحقيق والادعاء العام مع الشاب، وقررت إيقافه على ذمة القضية، ثم إحالته للقضاء بطلب محاكمته، وتعزيره على الوجه الشرعي. فيما قدر عدد حالات عقوق الوالدين التي حققت فيها هيئة التحقيق والادعاء العام بأكثر من ألف وخمسمائة قضية خلال العام، وبلغ عدد قضايا عقوق الوالدين المسجلة خلال العام 1433هـ في محاكم السعودية 1174 قضية، وكشفت وزارة العدل نسبة قضايا عقوق الوالدين الواردة إلى محاكمها حيث كانت النسبة الأعلى لمحافظة جدة بعدد 280 قضية، تليها الرياض 233 قضية ومكة المكرمة 117 قضية وتبوك 66 قضية، فيما بلغت قضايا عقوق الوالدين في المدينة المنورة 60 قضية والطائف 49 قضية و42 قضية في سكاكا و39 قضية في الدمام و36 قضية في حائل و27 قضية في خميس مشيط و18 قضية في أبها و15 قضية لكل من الأحساء والخبر و14 قضية عقوق في نجران و12 قضية في الخرج و11 قضية في عرعر.

وسجلت محاكم بريدة وجيزان سبع قضايا لكل منهما وست في محافظة ينبع بينما سجلت محاكم الدرعية وعنيزة وصبيا أربع قضايا لكل محكمة منهم، وثلاث قضايا في محكمة أبوعريش، فيما تساوت محاكم الرس والقطيف والخفجي بواقع قضيتين في كل محكمة، وكانت الجبيل وبقيق الأقل نسبة في قضايا عقوق الوالدين خلال العام الماضي بواقع قضية لكل منهما.

وأبلغت «عكاظ» مصادر أن جدة سجلت العام الحالي زيادة ملحوظة في قضايا العقوق تصل 15-20 % عن النسبة المتداولة أمام هيئة التحقيق والادعاء العام وأمام المحاكم، وسجل مكتب أحد القضاة 15 دعوى عقوق والدين في شهر ذي القعدة ما بين عدم الطاعة والتلفظ على الوالدين والتهجم ومحاولة الاعتداء والضرب، فيما بلغ متوسط عدد قضايا العقوق لدى كل قاض في المحكمة الجزائية في جدة ومحكمة الأحداث 7 قضايا عقوق أسبوعيا . ووصفت المصادر هذه النسبة بالعالية جدا، داعية الجهات الأكاديمية والهيئات المختصة ومؤسسات المجتمع المدني إلى دراسة وتشخيص هذه الظاهرة والحد منها.

جريمة كبرى

وارجع القاضي الشيخ طالب آل طالب عقوق الوالدين إلى أسباب منها عدم استقرار الأسرة و انفصال الزوجين، وتعاطي المخدرات في حالات كثيرة جدا إضافة إلى خلاف مالي في حالات ليست كثيرة وفي مجتمعات ثرية للأسف وراقية، وتضامنا مع أحد الوالدين أحيانا، وعدد مظاهر العقوق ما بين الإعراض والهجر والسب والشتم ويصل للضرب والاعتداء، وقال ان ثمة قصصا مأساوية من الربط والتقييد والتعذيب حتى وان كانت حالات نادرة.

وأضاف الشيخ آل طالب نظرت عشرات القضايا لأولاد يعقون أمهاتهم ولم أنظر قضية واحدة لبنت تعق والديها مستدركا «لكن الله أيها البنات»، ونبه إلى أن بعض الآباء يستغل رفع دعوى العقوق للأسف لابتزاز ابنه أو والدته في حال طلاقها.

ووصف قضايا عقوق الأبناء بأنها من أشد القضايا عاطفة وأزحمها بالمشاعر، فحين يكون الابن مقيدا بحضور والدته في مجلس الحكم وهي تغالب زفراتها في طلب السماح عنه على ألا يعود لضربها وشتمها.

وبين القاضي آل طالب أن جريمة عقوق الوالدين من الجرائم الكبرى وهي موجبة للتوقيف بنص النظام، ومن الشواهد التي عايشها قال: نظرت قضية مواطن يسنّ السكين أمام والدته ويقول لها وهو في حالة هستيرية لتناوله المخدرات: «مشتهي الليلة لحم» رافعا السكين في وجهها وهي تتحاشاه وتصرخ وتهرب منه وتغلق دونها الباب وأوضح القاضي آل طالب أن غالب القضايا يكون فيها الوالدان أكثر شفقة على أولادهما ويسارعون بالتنازل عن القضية بشرط أخذ التعهد على الأولاد.

وأضاف: للوالدين حق خاص في الدعوى وللدولة حق عام يتمثل به المدعي العام .. غير أن تنازل الوالدين عن حقهما الخاص يساهم في تخفيف عقوبة الحق العام أو يسقطها .. وارجع عامة قضايا العقوق من تفريط الوالدين في رعاية أولادهما في الصغر.

وينشأ ناشئ الفتيان فينا

على ما كان عوده أبوه

وختم بقوله اللهم ارزقنا بر والدينا وأسعدنا بقربهم واغفر لنا ولهم واشملنا جميعا برحمتك ورضوانك.

آثار الخادمات

وتحدث المحامي والمستشار القانوني خالد السريحي بقوله تختص المحكمة الجزائية بالنظر في قضايا عقوق الوالدين، وتعد قضية عقوق الوالدين كليهما أو أحدهما من القضايا الموجبة للتوقيف، وأضاف: الأسباب كثيرة منها ما هو ديني أو اجتماعي أو نفسي، ولا يمكن تعميم كل هذه الأسباب مجتمعة أو منفردة، ولكل منطقة من مناطق المملكة أسبابها، فالمدن تختلف فيها الأسباب عن القرى لكن يظل الدور الغالب في معظم قضايا العقوق وفي مدينة جدة تحديداً بحكم عملي هنا هو المال، كما يحدث في قضايا الإرث سواء كان ذلك لوفرته، والعقوق يبدأ للاستحواذ على النصيب الأكبر منه، أو لقلته والتي عادة تكون مصحوبة بضغوط اجتماعية ملحة أو لحالات مرضية كالإدمان على المخدرات ونحوها، وأضاف المحامي السريحي: حتى لا أكون ظالماً فالإعلام وأقصد هنا الإعلام المرئي له دور حيث إن الانفتاح الإعلامي وتطور وسائل الاتصال سبب للمجتمع صدمة من جميع النواحي الإنسانية، وفجأة أصبح يرى العالم بضغطة زر، وتجدر الإشارة إلى أن انشغال الوالدين بالبحث عن لقمة العيش سبب للأسف في ضعف التربية فضلا عن إسناد أغلب مهام التربية إلى الخادمات اللاتي يأتين من مناطق مختلفة الثقافة.

بر الآباء للأجداد

الدكتورة فتحية القرشي الأستاذة الأكاديمية في جامعة الملك عبدالعزيز والمشرفة على القسم النسائي في جمعية حقوق الإنسان قالت: من أهم أسباب عقوق الوالدين التقصير في الرعاية والخلل في التربية وبصفة خاصة التربية الدينية والعقوق نسبي فهناك من الوالدين من يبالغ في ممارسات سلطة الوالدية ويعاني من فراغ السلطة لأن والديه كانا يسيطران على جميع قراراته، كما أن منهم من يحصر رضا الوالدين في الزيارة اليومية أو رضا أحد أو بعض الأولاد الآخرين وهناك تأثير من زوجة الابن أو زوج الابنة وكذلك من متطلبات العمل ورعاية الأولاد والإقامة في مناطق بعيدة عن مقر إقامة الوالدين وكل هذه الأسباب لا تبرر العقوق المتضمن إعلان المقاطعة أو الإهمال لاحتياجات الوالدين المسنين أو المعاملة السيئة للوالدين فهذه تصرفات تعتبر عقوقاً مشيناً ومعيباً ،وتمنع التربية الدينية ظهوره ومن أهم شكاوى العقوق التي عالجتها الهيئة عقوق بالإهمال وقد تم تذكير الابن بخطورة عقوق الوالدين أما الشكوى الثانية فكانت العقوق بالحبس ومنع الخروج من المنزل وقد اتضح أن الشاكية معتلة نفسياً ومضطربة عقلياً وقد منعتها ابنتها من الخروج بمفردها حفاظاً عليها، وهناك عقوق بسبب رفض البنات الإقامة مع الوالد الذي بعد أن تزوج بغير سعودية طلقها وتزوج بأخرى ومنع مشاهدة التلفاز وكل ما كان متاحاً ومقبولا عند زوجته السابقة كما منع بناته من البقاء مع والدتهن التي تزوجت بشخص آخر وامتنع البنات عن الرجوع لوالدهن حيث رغبن البقاء مع جدتهن لأمهن حيث تعودن على حياة معتدلة بدون مبالغة في المحظورات.

أم مثلجة

الأخصائية الاجتماعية في مستشفى الملك فهد منى بنقش تقول : للأسف الشديد شاهدت نماذج ومشاهد لعقوق الأبناء منها ما وقع لسيدة مريضة بالفشل الكلوي، انتهت باكتئابها ومن ثم وفاتها وبقيت بالثلاجة أياما عديدة ولم تفلح الجهود في ثني ابنها من بر والدته في حياتها، وقالت إن الحل المقترح هو زيادة الوعي للمجتمع ببر الوالدين من خلال جميع وسائل الإعلام وتنشئة الأبناء وتربيتهم على أهمية بر الوالدين خاصة في سن الدراسة، والاهم إنشاء دار للمسنين المرضى أو ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يعانون من عقوق الوالدين أو الإهمال ويمتنع الأبناء عن رعايتهم، وروت بنقش عن مريضة أولادها رفضوا بقاءها في المنزل وهددوها برميها في الشارع وحاولت إيجاد مكان تقيم فيه وللأسف بحثت ولم تجد، وأوضحت أن هذه السيدة كان ابنها يتركها في مركز الكلى من يوم الغسيل إلى اليوم الآخر للغسيل وهي نائمة في استراحة السيدات إلى أن توفيت وبقيت في ثلاجة الموتى عدة أيام إلى أن جاء ولدها واستلمها بعد عدة اتصالات.

وطالبت ببرامج مستمرة للتعريف ببر الوالدين ولابد من تكريمهم وحمايتهم من الإهانة والذل من أبنائهم، والتكريم يأتي من الدولة التي تعتبر منبع الحماية، لذا فان إنشاء دار للمسنين من المرضى والمعوقين الذين يجدون جحودا من أبنائهم أمر مهم لحمايتهم.

نماذج بر

وعلى النقيض ضربت الخالة فاطمة التي تجاوزت المائة عام مثلا ببر ابنها ورعايته لها ودوام استمراره على زيارتها وتلبية طلباتها وقالت جاراتها في السكن: ابنها يداوم على زيارتها ويتمنى أن ترضى بالسكنى لديه ولكنها لا تلبث يومين عنده حتى تطلب العودة إلى هنا من أجل البقاء بجانب جاراتها وعندما تعود من بيت ابنها نلاحظ عليها علامات الاهتمام والرعاية خصوصا وأنها هي من ربت زوجة ابنها منذ صغرها واختارتها عروسا له عندما كبرت ،وقالت عند سؤالنا عن ابنها: لم يرزقني الله سوى هذا الابن وهو أيضا كبير في السن ولديه أحفاد ومع ذلك يحرص على زيارتي مع أبنائه وأدعو الله له بالبركة في العمل وأن يرضى عنه ويفتح له أبواب الخير فلم تأخذه مشاغل الدنيا بعيدا عني ولم أضفر بغيره في الحياة.