-A +A
فؤاد مصطفى عزب
هذا المساء كنت أحاول مكافحة قسوة الألم الجسدي بشكل سلمي فحبست نفسي في البيت.. لم يكن حبسي لنفسي في البيت هربا من الناس أو تأنيبا لها ولكنني كنت متعبا بما يكفي.. فحينما تشتد الأمور وغالبا ما تشتد وتغدو شديدة جدا أفعل ذلك.. لم أشعر برغبة في قراءة أي شيء.. بما في ذلك تصفح بريدي الإلكتروني المليء بكل شيء من حياة القرود حتى ملكات جمال المعيز.. تركت كوب القهوة والمجلات على حافة الكنبة.. كانت سعادتي كبيرة أن أجني فائدة نفسية من هذا الحجر الاختياري.. فما أن مددت يدي بأصابعي الضبابية نحو التلفاز عن طريق التحكم عن البعد حتى حظيت بشيء جميل.. وهكذا اعتبرت نفسي محظوظا.. فالعثور على هدنة فكرية مؤقتة من صخب ما يعرض على الفضائيات أصبح كالبحث عن قطرة مطر نقية قبل أن تلامس تراب الأرض .. فالفضائيات العربية رغم كثرتها نصف ما تقوم بطرحه من برامج على شاشاتها ما هو إلا استنساخ لبرامج جلبتها من الغرب ثم تعريبها وبصورة مشوشة للدرجة التي يجتاحك سؤال وأنت تتابع ذلك الزخم الكبير الممطر لهذه البرامج هل تحجر العقل العربي!! أما الانكسارات والتشققات التي تهز الشاشة وبشكل متتابع وعنيف فأصبحت لا تخلف في النفس سوى الخيبات والألم.. والحوارات التي تدور في البرامج الحوارية نفاجأ بأن كل مشارك يتحدث وكأنه قطار يسير على قضبان لسكة حديدية غير قابل لتعديل المسار وكأنه يلغي الآخر ويعتبره غير موجود وإذا اعتبره موجودا فمن أجل أن يقاطعه.. لذا اعتبرت نفسي محظوظا أن تعثرت يدي ببرنامج يتحدث عن أمير الشعراء أحمد شوقي ويبث أغنية «لفيروز» من كلماته هي «يا جارة الوادي» كنت أنصت للبيت الذي يقول فيه «لم أدر ما طيب العناق على الهوى .. حتى ترفق ساعدي فطواكِ».. وبصوت فيروز الأجمل من عطر.. بادرتني الأغنية القديمة كمسرة شامية رفيفة.. كنت أعبر عن طربي وأهز رأسي بنشوة وكأن الأغنية تخصني وحدي.. وهي فعلا تخص زماني.. كان الصوت يغوص في عنق الحجرة كبلور يحتضن نور.. من أي سماء يتنزل هذا الصوت الصافي كمياه «وادي العريش» العذب.. أضاءني الصوت.. كنت أحتاج إلى هذا اللون من الغناء لأضيء.. تظل فيروز عمود نور يغسل بضوئه بقع الليل ويشعل براعم الورد في الشرفات.. نقلني ذلك الصوت إلى بيروت كنت موزعا بين نشوتي وذكرياتي.. استدعت الذاكرة التي لم يعترها الصدأ بعد كل شيء.. نقلتني إلى وسط بيروت حيث الكتب والصحف والمجلات والندوات والموسيقى المبتكرة والسينما والمسرح وركوة القهوة والتين المجفف واللوز الأخضر الجبلي المثلج والثياب المنشورة على النوافذ وفوضى الأسلاك الكهربائية والهاتفية والأرجيلة التي تطل برأسها بجراءة من المقاهي يتطاير منها التنباك والمعسل والكراسي المسترخية على الأرصفة في المقاهي ومناقيش الزعتر واللحم بالعجين والكنافة بالجبنة والبقلاوة والحروف المضيئة بالنيون وزهور القرنفل على الطاولات ورائحة النعناع المغلي والضحكات التي تشق صوت العمر.. صور جميلة لم يمحها الوقت.. لازالت عالقة في نور العين.. سنوات ابتعدت فيها عن بيروت لم أعد أذكر مقدارها ولكن بيروت ظلت مدينة حلوة كريق النبات.. لم يتمكن أحد من تهميش أحد.. لم يتمكن أحد من إلغاء أحد.. بقي لبنان وبقينا معه قبلة عالقة على شفاه الزمن..

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة