من «شعب عامر» تتفجر الكتل الاسمنتية عن أعمق الذكريات في حياة الأمة.. فهنا في هذا المكان حيث لم تكن في الشعب سوى بعض مبان حجرية قليلة، في بطن الوادي حوصر نبي الهدى صلى الله عليه وسلم.. والآن يقوم في ذات المكان مئات الابراج السكنية المتلاصقة لتؤوي آلاف الحجاج والمعتمرين فيما هجر «الشعب» سكانه الأصليون واتجهوا الى احياء اكثر هدوءاً هرباً من الضجيج والضوضاء والحركة التي لا تهدأ ابداً.
من هو عامر؟
شعب عامر أو حارة شعب عامر ينسب حسب عبدالله ابكر في كتابه: «صور من تراث مكة المكرمة» الى عامر بن لؤي، ويقال له «المجمع» لما جمع قصي بن كلاب من حرب خزاعه ورأسته قريش فجمع امرهم بعد تشتته أو يقال له «مجمعاً» وهو اسم يُدعى به قصي بعد ان جمعَ الله به القبائل من فهر وشعب عامر، ويسمى «المطابخ» حيث كانت فيه مطابخ «تبع» حين جاء الى مكة وكسى الكعبة ونحر البدن ويقال له « «شعب ابن عامر» وقد اختصر اهل مكة التسمية فسموه: «شعب عامر» وهو جزء من شعب بني هاشم..
تقع حارة شعب عامر في شمال شرق المسجد الحرام بعد شعب علي (مولد علي بن ابي طالب) وبيوت لبني هاشم وكانت الجهات الشرقية من شعب عامر مساكن لبني عبدالمطلب في الجاهلية اما باقي قريش فكانوا في الجهات الاخرى من المسجد الحرام، وتمتد حدود حارة شعب عامر باتجاه الشمال الشرقي الى منطقة الجعفرية والتي تقع في الجهة الغربية منها مقابر «المعلاة» المشهورة، فالجهة التي فيها شعبة ابى موسى الاشعري الى بداية شعب علي شرقاً وجنوباً اى اعالي الجبل وحتى بداية القشاشية نزولاً الى المسجد الحرام.

قصة الحصار
تحالف المشركون في خيف بني كنانة على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب في البيع والشراء والمخالطة والمجالسة وحتى مجرد الكلام والسلام، وذلك حتى يسلموا النبي صلى الله عليه وسلم لقريش فتقتله وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة.
يقال ان الصحيفة كتبها منصور بن عكرمة وقيد كتبها النضر بن الحارث ولكن الصحيح ان كاتبها هو بقيض بن عامر بن هاشم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فشلت يده، وقد انحاز بنو هاشم وبنو المطلب كلهم كبيرهم وصغيرهم رجلاً وامرأة في شعب ابي طالب عدا ابا لهب فانه ظاهر المشركين على عشيرته ولم يدخل «الشعب».
استمر الحصار والمقاطعة ثلاث سنوات متصلة، وقد بلغ الجهد والتعب اقصاه بمن في «الشعب» حتى اكلوا اوراق الشجر وجلود الذبائح وحتى كان يسمع صوت بكاء النساء والاطفال من الجوع من داخل «الشعب»..

نقض الصحيفة
ذكر اهل السير ان الله عزّ وجل برحمته ارسل على صحيفة قريش التي كتبوا فيها مقاطعتهم لبني هاشم «الأرضة» فلم تدع فيها شيئاً سوى اسم الله عز وجل الاّ أكلته فاخبر الله عز وجل بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم فاخبر ابا طالب، فقال ابو طالب: يا ابن اخي من حدثك هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخبرني ربي، فقال له عمه: ان ربك لحق، وانا اشهد انك صادق، فجمع ابو طالب رهطه ولم يخبرهم بما اخبره به رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً من ان يفشوا ذلك الخبر فيصل الى المشركين فيحتالوا على الصحيفة بالخبث والمكر، وانطلق ابو طالب برهطه حتى دخلوا المسجد والمشركون من قريش في ظل الكعبة، فلما رأوه ظنوا ان الحصار حملهم على ان يدفعوا اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلوه، وهنا قال لهم ابو طالب: صحيفتكم بيني وبينكم وان ابن اخي قد اخبرني ان الله عز وجل قد بعث على صحيفتكم الأرضة فلم تدع فيها شيئاً الا أكلته وبقي فيها اسم الله فان كان كاذباً فلكم عليّ ان ادفعه اليكم تقتلونه وان كان صادقاً فهل هذا ناهيكم عن تظاهركم علينا ثم اخذ عليهم المواثيق واخذوا عليه فلما نشروها فاذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا نهاية الحصار.
فخرج القوم من «شعبهم» وقد اصابهم الجهد الشديد ولكن هذا الحصار قد اثبت مدى صلابة المسلمين امام التحديات، كما محص الصف المسلم من اصحاب القلوب المريضة واثبت هذا الحصار صدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما أخبر به من معجزات.
سكان وعُمد شعب عامر
ذكر عبدالله ابكر في كتابه: «صور من تراث مكة المكرمة»، ان كثيراً من العوائل سكنت هذا «الشعب» منها آل باخذلق وال النويصر وآل المعشق وآل الحليس، وآل الطويرقي وآل القطان وآل السروجي وآل النقيطي وآل ابو الريش وآل مجاهد وآل جحا وآل الحريري وآل النشار وآل الصعيدي وآل السندين وآل العيوني وآل حسنين وآل بن ظاهر وآل السنكي وآل البويبان وآل السمسم وآل المعدس وآل الحبحب وآل عرب (ومنهم الشاعر وزير الحج سابقاً حسين عرب). وآل العنبرة وآل اللوخية وآل البحا وآل الباتي وآل السجيني وآل العصيدي وآل الشتيوي وآل المحلاوي وآل قرشي وآل الفقيه وآل الخراشي وآل الكروان وآل القفاص وآل عيد وآل الرشيدي وآل السرور وآل السروجي وآل زارع وآل الرسيل وآل المددين وآل الكيفي وآل القديد والاشراف والعبادلة وغيرهم كثير.
وتناوب على عمودية هذا الحي التاريخي العريق عدد من العمد منهم الشيخ حسن كتبي والشيخ سليمان نافورة والشيخ محمد نور خوقير والشيخ بكر قاسم والشيخ خليل عبده والشيخ منصور بن ظافر والشيخ عبدالله بن هابط والشيخ عبدالله بن ظافر والشيخ محسن حكمي والشيخ ابراهيم العيان والشيخ احمد غبره والشيخ حامد عدس والشيخ الشريف العبدلي.
وعن بيوت شعب عامر يقول المهندس محمد بن عبدالله آل زيد الشريف الباحث في الشأن المكي ان بيوت مكة المكرمة في اوائل القرن الرابع عشر كانت تبنى بالحجر والنورة ويُعرف الحجر الذي كانت تبنى به بـ الشبيكي، وحي شعب عامر كان واحداً من الاحياء التي اكتست بهذه المباني فضلاً عن الرواشين الرائعة الصنع من الخشب والابواب ذات «الديكورات» المتفردة وكان سكان هذه البيوت يخصصون الطبقة الارضية لمجالس الرجال واستقبال الضيوف ويسمونها «ديوان».اما شوارع «شعب عامر» فظلت حتى وقتنا الحاضر متعرجة و غير مستوية بسبب جغرافية المنطقة الجبلية فالزقاق أو الشارع يضيق احياناً ويتسع احياناً اخرى وعندما اخذ البناء بالاسمنت ينتشر اخذت الرواشين تختفي وتحل محلها «البلكونات»، فيما اخذت العمارات تتعالى الى اكثر من عشرين طابقاً تحولت الى فنادق ضخمة ودور مفروشة تستوعب عشرات الآلاف من الحجاج.

بئر الحمام والعداسة
وعن ابرز الآبار التي كانت في شعب عامر بئر الحمام لتواجد الحمام فيه بكثرة وبئر «أبودية» وهو رجل سميت البئر بكنيته وبئر التمارة لوجود باعة التمر عندها اوبئر العداسة.
كما توجد بالشعب العديد من محلات الجزارة والجزارين اشهرهم احمد اسلم وعلي اسلم وناصر حريري والعمر الجداوي الذي كان يذبح الجمال والابقار وعم ادريس التكروني -غير المؤذن- الذي كان يبيع جميع انواع اللحم.
اما محلات العطارة فقد ارتبطت بعدد من العائلات منهم شيخ الصنعة الشيخ صبغة وسراج ابو زبيبة، وكانوا يقومون بتجهيز الاكفان ومنها ما يتصدق به على الفقراء الذين ليس لديهم ما يشترون به الكفن واحياناً يجودون حتى على الاغنياء مواساة لهم في مثل احوالهم وتسلية لاحزانهم.