-A +A
د. سعد الدين بن محمد الكبي
أباح الإسلام الرضاع، وهو أن يَرْضَع الطفل من لبن امرأةٍ غير أمه، وقد تدعو الحاجة إلى ذلك، كوفاة الأم مثلاً، أو لعدم قدرتها على الرضاع، إما من انشغال ٍأو عجزٍ، كعدم وجود اللبن أصلاً، أو لأسباب أخرى. وبناءًً على ذلك، فإنه يترتب على هذا الرضاع أحكام شرعية، من ثبوت المحرمية بين الرضيع وفروعه من جهة، وبين مرضعته ومن اتصل بها من جهة النسب من جهة ثانية.
من المؤسف أن كثيراً من المسلمين يجهلون ما يترتب على الرضاع، فضلاً عن جهلهم بشروطه ومتى يثبت، ومتى لا يثبت، فيتساهلون به، فينشأ بسبب ذلك مشاكل اجتماعية، من أهمها فسخ النكاح بين من ثبتت بينهما المحرمية بسبب الرضاع، وبالتالي، تصبح المرأة ثيباً، فضلاً عن انتهاك الأخ لعرض أخته من الرضاع وما شابه ذلك.
لذلك، فالموضوع جدير بإفراده ببحث مستقل وإن كان قد بحثه الفقهاء المسلمون المتقدمون في كتب الفقه وبينوا أحكامه لاسيما وأن الهمم ضعفت عن القراءة في كتب الفقه، وخاصة المطولة منها. وقد وفقني الله عز وجل لبحث الموضوع، وجمع مسائله من بطون كتب الفقه سائلاً المولى أن ينفع به إنه ولي ذلك والقادر عليه.

تعريف الرضاع
الرضاع بالفتح والكسر (رَضاع - رِضاع ): اسم من الإرضاع، وهو اسم لمص الثدي وشرب لبنه. وشرعاً: اسم لحصول لبن امرأة أو ما يحصل منه في معدة طفل أو دماغه. وقال الجرجاني: هو مص الرضيع من ثدي الآدمية في مدة الرضاع. وعرفه بعض العلماء بأنه: مصُ مَنْ دون الحولين لبنا ثاب عن حمل، أو شربه ونحوه.
والرضاع جائز في الأصل، قال تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنة حمزة رضي الله عنهما: «إنهـا ابنـة أخي من الرضاعة» وقال عن ابنة أم سلمة رضي الله عنها: «إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ُ».
ورضعت عائشة رضي الله عنها من زوجة أبي القُعيس بعد أن نزل الحجاب.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات يحرِّمن ثم نسخن بخمس معلومات يُحرّمن فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهنَّ مما يقرأ من القرآن».
وقد يكون الرضاع مكروهاً، كالارتضاع بلبن المشركة ولبن الفجور، قال ابن قدامة: (كره الإمام أحمد الارتضاع بلبن الفجور والمشركات، وقال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز: اللبن يشتبه فلا تستق من يهودية ولا نصرانية ولا زانية، لأنه ربما أفضى إلى شبه أمه المرضعة في الفجور، ولأنه يخشى أن يميل إلى مرضعته في الدين. ويكره الارتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق، فإنه يقال: إن الرضاع يغيّر الطباع).
وقد يكون للرضاع أحكام أخرى بحسب الحال، فقد يكون واجباً وذلك في حق من لها لبن ووجدت طفلاً ليس له مرضعة، فيتعيّن عليها إرضاعه من باب إنقاذ نفس من الموت والهلاك، والله أعلم.


الرضاع المحرِّم
إن للرضاع تأثيراً على المرضعة ومن يتصل بها من النسب، وعلى الرضيع وأولاده، إلا أن هذا التأثير لا يوجد إلا إذا تحقق الرضاع بشروطه المعتبرة شرعًا. واختلف الفقهاء في السن الذي يثبت فيه التحريم بالرضاع، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن الرضاع الذي يثبت فيه التحريم ما كان في سن الحولين، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة.
واستدلوا بقولـه تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يُتم الرضاعة) فجعل تمام الرضاعة حولين. وبقوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: «يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة»، فقال: «انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة».
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام».
ومعنى في الثدي، قال الشوكاني: (أي في أيام الثدي، وذلك حيث يرضع الصبي فيها). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا رضاع إلا في الحولين). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم».
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن التحريم يثبت إلى ثلاثين شهراً. واستدل بقوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً).
وذهب الظاهرية إلى أن رضاع الكبير يحرم، لحديث سهلة بنت سهيل في قصة إرضاعها لسالم رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «أرضعيه تحرمي عليه». وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن إرضاع الكبير يجوز للحاجة ويثبت به التحريم، فقال: (وهذا الحديث أي حديث سهلة بنت سهيل في إرضاعها لسالم رضي الله عنهم أخذت به عائشة رضي الله عنها وأبى غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به مع أن عائشة رضي الله عنها روت عنه قال: «الرضاعة من المجاعة» لكنها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية، فمتى كان المقصود الثاني لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام، وهذا هو إرضاع عامة الناس، وأما الأول فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم، وقد يجوز للحاجة مالا يجوز لغيرها، وهذا قول متجه).
والراجح مذهب جمهور أهل العلم، وهو أن الرضاع لا يحرم إلا ما كان في الحولين، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الرضاعة من المجاعة» وللأدلة السابقة المتقدمة في بيان أن الرضاع الذي يحرم ما كان في زمن الفطام في الحولين، لأنه هو السن الذي يتغذى فيه باللبن، فينبت به اللحم وينشز به العظم.وأما الاستدلال بقوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) على ثبوت التحريم إلى الثلاثين، فإن مدة الحمل أدناها ستة أشهر فبقي للفصال حولان،وقد دل على ذلك قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) مع قوله: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فحولان للرضاع ويبقى للثلاثين ستة أشهر وهي أقل مدة الحمل.
ويجاب عن حديث سهلة رضي الله عنها في قصة إرضاعها لسالم رضي الله عنه وهو كبير: أنه خاص له دون سائر الناس، وهذا ما صرح به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة رضي الله عنها، فعن أم سلمة رضي الله عنها كانت تقول: «أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا».
فقياس غير سالم بسالم، قياس وإلحاق مع الفارق، لأن سالماً رضي الله عنه كان دخوله جائزاً على سهلة رضي الله عنها، حيث كان ولدها بالتبني، وذلك عندما كان التبني جائزاً، وهذا يدل على أن دخولـه كان مباحاً في الأصل، ولما حرم التبني، ووجد الحرج والمشقة من الاحتجاب لأنه كان بمثابة الولد، رخص الرسول صلى الله عليه وسلم في إرضاعه كبيراً ليستمر له ما كان في حقه مباحاً، أما وبعد أن حرم التبني، فليس أحد من الرجال يكون دخولـه على النساء مباحاً فيطرأ الحرج والمشقة في حقه حتى نحتاج إلى إزالتهما فتأمل، والله أعلم.
قال شيخ الإسلام في بيان مذهب الجمهور: (والكبير إذا ارتضع من امرأته أو من غير امرأته لم تنشر بذلك حرمة الرضاع عند الأئمة الأربعة وجماهير العلماء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وحديث عائشة في قصة سالم مولى أبي حذيفة مختص عندهم بذلك لأجل أنهم تبنوه قبل تحريم التبني).

رضعات التحريم
اختلف أهل العلم في العدد المحرم من الرضاع: فذهب الإمامان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى أن قليل الرضاع وكثيره يحرم، وهذا القول هو رواية ثانية عن الإمام أحمد رحمه الله وإليه ذهب أيضاً ابن المسيب، والحسن، ومكحول، والزهري، ومالك، والأوزاعي، والثوري، والليث.
واحتجوا بقوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) وهذا لفظ مطلق يفيد الإطلاق وعدم التقييد، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وذهب داود الظاهري وابن المنذر، إلى أن أقل ما يحرّم ثلاث رضعات، وبه قال أبو ثور وأبو عبيد. واستدلوا بمفهوم قولـه صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة ولا المصتان» وفي رواية عن أم الفضل بنت الحارث قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» فمفهوم الحديث أن الثلاث تحرم.وذهب الإمام الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى إلى أن التحريم لا يكون بأقل من خمس رضعات، وهو قول ابن حزم أيضاً. واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهنَّ فيما يقرأ من القرآن». والراجح ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى لصريح ما استدلا به، وهو صحيح محكم، ومن آخر ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم في حياته.

حد الرضعة
الرضعة هي المرة، فمتى التقم الصبي الثدي فامتص منه ثم تركه باختياره لغير عارض كان ذلك رضعة، فأما إن قطع لضيق نفس، أو للانتقال من ثدي إلى ثدي، أو لشيء يلهيه، أو قطعت عنه المرضعة، فإن لم يعد قريباً فهي رضعة، وإن عاد في الحال، فجميع ذلك رضعة واحدة على الراجح.
قال صديق حسن خان: الرضعة أن يأخذ الصبي الثدي فيمتص منه ثم يستمر على ذلك حتى يتركه باختياره لغير عارض.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: الرضعة ما كانت منفصلة عن أختها بزمن بيّن يظهر فيه الانفصال، وهذا هو اختيار ابن القيم، وشيخنا السعدي رحمه الله، وهو الأقرب للصواب، وبناءً على ذلك، لو تحول الطفل عن ثدي المرضعة لأنه سمع صوتاً أو حولته المرأة إلى ثديها الآخر، أو تركه لبكاء، فهذا لا يخرجها عن كونها رضعة، ولا يشترط أن تكون كل رضعةٍ في يوم، بل ربما تكون الرضعة الأولى في الساعة الواحدة، والرضعة الثانية في الساعة الثانية وهكذا.

الآثار الشرعية
إذا أرضعت المرأة طفلاً رضاعاً محرماً، صار الطفل المرتضع ابناً للمرضعة بغير خلاف، وصار أيضاً ابناً لمن ثاب اللبن بسببه وهو الزوج ـزوج المرضعة لأنه صاحب اللبن فصار الرضيع في تحريم النكاح وإباحة الخلوة والمسافرة كالابن تماماً. وأولاده من البنين والبنات أولاد أولادهما وإن نزلت درجتهم، وجميع أولاد المرضعة من زوجها صاحب اللبن ومن غيره وجميع أولاد الرجل الذي انتسب الحمل إليه من المرضعة ومن غيرها إخوة المرتضع وأخواته، وأولاد أولادهما، أولاد إخوته وأخواته وإن نزلت درجتهم، وأم المرضعة جدته، وأبوها جده، وإخوتها أخواله، وأخواتها خالاته، وأبو الرجل جده، وأمه جدته، وإخوته أعمامه، وأخواته عماته، وجميع أقاربهما ينتسبون إلى المرتضع كما ينتسبون إلى ولدهما من النسب، لأن اللبن الذي ثاب للمرأة مخلوق من ماء الرجل والمرأة، فنشر التحريم إليهما، ونشر الحرمة إلى الرجل وأقاربه وهو الذي يسمّى لبن الفحل.
أما التحريم من جهة المرتضع فلا ينتشر إلا إليه وإلى أولاده وإن نزلوا، ولا تنتشر إلى من في درجته من إخوته وأخواته، ولا إلى أصوله كأبيه وأمه، ولا إلى حواشيه كأعمامه وعمَّاته وأخواله وخالاته، فلا يحرم على المرضعة نكاح أبي الطفل الرضيع، ولا أخيه، ولا عمه ولا خاله، ولا يحرم على زوجها نكاح أم الطفل المرتضع ولا أخته ولا عمته ولا خالته، ولا بأس أن يتزوج أولاد المرضعة وأولاد زوجها صاحب اللبن إخوة الطفل المرتضع وأخواته.
ولا تثبت بقية الأحكام بالرضاع، من النفقة، والعتق إذا ملكه، ورد الشهادة لأهل البيت والإرث وغير ذلك.

الشهادة على الرضاع
إذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إذا كانت مرضية، وبهذا قال طاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب، وترجيح ابن قدامة.
لما روى عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «كيف وقد زعمت».
وفي رواية: قلت إنها كاذبة، قال: «كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ دعها عنك» ويقبل فيه شهادة المرضعة على نفسها لحديث عقبة أن المرأة قالت: «قد أرضعتكما فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادتها» ولا تقبل الشهادة على الرضاع إلا مفسَّرة ببيان عدد الرضعات وسن الرضاع. قالوا: وإذا تزوج الرجل المرأة فأقر أن زوجته أخته من الرضاع انفسخ النكاح ويفرَّق بينهما.
وإذا شكت المرضعة هل أرضعت الطفل أم لا؟ أو هل أرضعته خمس رضعات أو أربع رضعات، لم يثبت التحريم، لأن الأصل واليقين عدم الرضاع.
وأما إذا شك: هل دخل اللبن في جوف الصبي، أو لم يدخل؟ قال شيخ الإسلام: (فهنا لا نحكم بالتحريم بلا ريب، وإن علم أنه حصل في فمه، فإن حصول اللبن في الفم لا ينشر الحرمة باتفاق المسلمين).

نصائح للمرضعة
وفي ختام هذا البحث أسجل بعض النصائح للنساء اللواتي يُرضعن أطفالاً من غيرهن فأقول:
1- ينبغي أن يكون إرضاعك بإذن زوجك، فإن علمت أنه لا يرضى بذلك فعليك الامتناع، لأن طاعة الزوج واجبة، ولا سيما إذا كان اللبن ثاب من وطئه.
فإن أرضعت المرأة رضيعاً مع علمها بعدم رضى زوجها بذلك، تأثم ويترتب على هذا الرضاع آثاره من ثبوت المحرمية إذا حصل الرضاع بشروطه، لأن العبرة من التحريم وصول اللبن إلى الجوف وقد وصل.
2- ينبغي على من تُرضع طفلاً من غيرها أن تسجل كل رضعة على دفتر خاص مع بيان التاريخ، وتزيد ذلك كلما كررت الرضعات، فإذا بلغت الرضعات خمساً، فلا ضير بعد ذلك بترك التسجيل، لثبوت المحرمية.
3- الأفضل الإشهاد على الرضاع مع إثبات ذلك في الدفتر أو على الورق، وذلك لئلا يُنسى أو يُجحد في المستقبل.
4- الأفضل لمن أرضعت طفلاً رضاعاً محرماً أن تسعى لتسجيل ذلك في سجل النفوس إن أمكن ذلك.
* باحث شرعي