من الكلمات التي أصبحت متداولة في المشهد الإعلامي والثقافي المحلي والعربي بل وبين عموم الناس كلمة «الحوار». ومن المؤسف أن مفهوم الحوار بمعناه الحقيقي شبه غائب عن النقاشات والسجالات التي نسمعها يومياً. وينبغي أن نتوقف عند كلمة «الحوار» كمفهوم وكآلية للتعايش وليس كمفردة يرددها الكثيرون للوجاهة وادعاء الثقافة، أو لإضمار أهداف وأغراض شتَّى. أقول: إن للحوار شروطاً – تحدَّثتُ عن بعضها في غير مكان – وأهمها هو الاعتراف ليس فقط بالآخر وإنما بـ(آخريته)؛ فللآخر هويةٌ مختلفة عن «الأنا» تجعله «آخرَ»، هويةٌ لا يصحُّ التلاعب بها واختزالها إلى مجرد إمكانيةٍ للنفعِ أو كورقةٍ رابحةٍ للتنافس والتناحر السياسي والأيديولوجي والمصلحي.
لقد لاحظتُ أن كثيراً من الناس لا يفهم من الحوار إلا كونه وسيلةً من أجل إقناع الآخر والتغلب عليه أو دعوته ونصحه وتوجيهه! وهذا برأيي ليس حواراً. فأنا حينما أنصح إنساناً فإن هذا يعني أن لديّ قائمة من الأفكار والتصورات والتعاليم أريد من هذا «الآخر» أن يتبنَّاها ويؤمن بها. بعبارة أخرى: في إطار النصح والدعوة ينبغي على «الآخر» أن يكون «أنا»؛ أن يتركَ «آخريتَه» – بصرف النظر عن طبيعة هذه الآخرية – وأن يدخلَ إلى «أنا غيره», أن يذوب فيها ويتخلّى عن ذاته. وبهذا ينتهي «الآخر» إلى الاغتراب عن ذاته، أو كما يسميه البعض «الانسلاخ»!
أما إذا كانَ هذا «الآخر» عصياً على الاندماج في ذاتِ غيره، وضنيناً على فكره وروحه من أن يتخلّى عنهما لغيره، فإنّه سوف يواجه كثيرا من المصاعب، أقلها عدم الاعتراف بآخريته، أي بإنسانيته.
إن الأيديولوجية أو الثقافة المنغلقة على ذاتها لا تفهم من الحوار شيئاً مادامت تخلط بينه وبين النصح والدعوة والتوجيه، وأنا لا أقلل من شأن هذه القيم، ولكنني أفرق بينها وبين الحوار. فالحوار – خلاف ما ذكرناه عن النصح – يبدأ من الاعتراف بآخرية الآخر قبل كل شيء؛ أي بكينونته واستقلاله وأنه ليس مجرد آخر يقبع داخل اهتمامات وميول واستراتيجيات «الأنا». وهذا هو الحوار الديمقراطي، أما الحوار المزيف فهو الحوار الأيديولوجي الذي ينهضُ على رؤية مركزية نرجسية ومنظور نفعي ضيق يجعل من إقامة الحوار مع الآخر مجرد وسيلة لتحقيق منفعة مادية أو غير مادية؛ كالسيطرة عليه، أو فرض شروط معينة تضمن ولاءه، أو اجتذابه إلى الإيمان بالأيديولوجية التي يبشر بها. وكما هو ملاحظ فالأيديولوجيات المغلقة بالعادة تعشق استجلاب أكبر عدد ممكن من الأتباع، مما أدى بها إلى الاهتمام بالكم على حساب الكيف.
لقد هاجم مفكرو ما بعد الحداثة في أوروبا وأمريكا مفهوماً ورثوه من مفكري عصر النهضة الأوروبية وهو مفهوم «المركزية الغربية»، والذي يجعل الغربي لا يرى في الحضارات والثقافات الأخرى إلا ما يريد منها.. مما أدى إلى حجْب حقيقة هذه الحضارات وماهية شعوبها. وتفكيك هذا المفهوم (المركزية) ساعد على خلخلة الأسس التي بنى عليها الفكر الغربي رؤيته للآخرين، فانتهى بهم هذا العمل النقدي التفكيكي العظيم إلى الاعتراف بما للآخرين وبما للشعوب والحضارات الأخرى من مكانة وقيمة واستقلالية. فالحوار الحقيقي هو أن نخرجَ من مركزية الذات واهتماماتها النفعية لكي نرى الآخرين على حقيقتهم ونتواصل معهم على ضوء هذه الرؤية الجديدة ذات الطابع الإنساني الرفيع.
لقد كانت الحضارات الإنسانية القديمة تجهل هذا المعنى العظيم لمفهوم الحوار، حتى ليمكن النظر إلى علاقة الأنا بالآخر من المنظور المركزي فحسب. وأكثر مستويات علاقة الأنا بالآخر قسوةً هي علاقة الحروب والغزو أو الاحتلال. ولكنني لا أجد فرقاً واضحاً وجوهرياً بين علاقة الغزو وعلاقة التوجيه المنظم والدعوة الأيديولوجية التي تستخدم (الخطاب والكلام) بدلاً من السلاح. والكلامُ من الكلم أي الجرح، وقد أسرفَ أدباء ولغويو العرب في تشبيه الكلام بالسيف والقناة وغير ذلك من الأدوات الحادة!. فقد كان ترويج الأيديولوجية الشيوعية السوفياتية – مثلا – لا يقل خطورة عن الحروب والغزاوت التي قاموا بها في أنحاء متفرقة من العالم. ولماذا نذهب بعيداً ؟ إن الدعوة التي تمارسها الجماعات الإرهابية في مختلف المواقع والمنابر الإعلامية أخطر بكثير من التفجيرات ذاتها.
ما أريد قوله أن أية أيديولوجية مغلقة ترفع شعار الحوار فهي تقصد به معنى مختلفا عن المعنى الذي يفهمه المفكرون المتحررون والمثقفون النابهون؛ إنه حوار ينطوي على قوة وسلطة وإرادة سيطرة وتجنيد. إنَّ «الآخر» يحضرُ في خطاباتهم وعلى ألسنتهم كـ(إمكانية)؛ كآخر «يمكن» له أن يدخل إلى منظومة «الذات» الفكرية والأيديولوجية، وينتهي به المطاف إلى أن يصيرَ أحدَ أتباعها. أما إذا كان هذا الآخر عصياً على الاندماج والاتِّباع، وعرفوا منه حيطة وحذراً تجاههم وصلابة ضد أفكارهم فإنه سيصبح في هذا الحالة خارج دائرة الحوار (المزيف طبعاً)، وبالتالي سيكون عدواً لدوداً وخصماً عنيداً لا لشيء إلا لأنه احتفظ بذاتيته واستقلاله وحريته. ومن أجل هذا نجدُ أن الحوار الأيديولوجي يبتسم ويبشّ ويتلطّف مع «الآخرين» ولكنه لا يلبث أن يكشَّرَ عن أنيابه إذا أدرك صلابتهم وعدم قبولهم للدعوة. ومن هنا كانت البشاشة واللطف ذرائعَ وخدعاً «خطابية» لا قيمة لها. أما الحوار الديمقراطي فهو، على العكس، لا يقيم حواراً إلا مع المختلف، ولا يريد التواصل إلا مع المباين له؛ لأن «الآخر» عندئذٍ سيكون مصدر غنى وثراء للأنا.


للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة