في مقالي السابق جاءتني ملاحظات كثيرة من مثقفين أعزاء وكانت أغلبها تتساءل عن مبرر إطلاقي صفة (المفكر) على كتّاب شباب لم يؤلفوا حتى كتباً. وكان الأديب الأريب محمد السحيمي أكثرَ هؤلاءِ احتجاجاً وذلك في مقاله يوم الخميس المنصرم (شايع الوقيان أعرض عن هذا). وفي هذا المقال ثلَبَ السحيمي ثلاثةً من الشباب المفكر (المطيري والبلوي والغيثي) ونال منهم وانتقص من أقدارهم ولم يعلمْ – وربما علِم – أن هؤلاء وأمثالهم هم الصفوة التي سوف يجود بها الوطن، وأنهم البقية الباقية حينما يخني الدهرُ على الكثرة الكاثرة. وكثيراً ما ووجه الشباب بمثل تعنت وصلف الشيوخ كالشيخ السحيمي غفر الله له؛ ثائرِ الأمس الذي أرجو أن يعودَ شباباً وأن يدخلَ إلى بيضةِ الصيصان ليتعلمَ من جديد شغبَ الأسئلة التي لا يتقنها إلا الصغار. وللإيضاح فإنني سوف أبدأ بتقرير الحقيقة التالية؛ وهي أني أسمِّي مفكراً كلَّ كاتبٍ يشتغل على الفكر؛ نقداً وإبداعاً وتحليلاً وتأريخاً. فكما أننا نطلقُ على من يمارس الشعرَ شاعراً وعلى من يشتغل على الشعر من داخله ناقداً و من خارجه مؤرخاً للشعر، ونطلق على كاتب المسرحية مسرحياً وعلى مبدع القصة قاصاً... فكذلك يحق لنا أن نطلق على من يشتغل على الفكر صفة مفكر. وإلا فماذا نسميه؟ هل نسميه قاصاً أو نسميه شاعراً؟ إنه ليس كذلك !. قد يقول البعض سمِّه «كاتباً» ولكنني سأرد عليه بأن صفة الكاتب تطلق على الجميع؛ على الشاعر والقاص والروائي والمفكر والسوسيولوجي، فهي ليست صفة خاصة ولا تميّز صاحبها. فإذا قلتُ (فلان كاتب) سيبدهني سؤال مفاجئ: كاتب في ماذا؟ أما إذا قلت (فلان مفكر) فسيتضح مجال اشتغاله فوراً. وإذن فصفة المفكر إذا تم إطلاقها على كاتبٍ فهي لا تطلق لمجرد التشريف أو الوجاهة أو التلقيب المجاني، بل هي مهنة الكاتب إذا صح التعبير، وبعبارة أخرى: هي مجال اشتغال الكاتب وعمله. قد يرى البعض أن صفة المفكر أعظم من صفة الشاعر ولا يحق إطلاقها عشوائيا على أي كاتب كما نفعل ذلك في مجال الشعر والرواية. ولكنني أذكِّره بما قلته قبل قليل من أن الوصف هنا متعلق بالموضوع الذي يقاربه الكاتب ويعالجه. أما صفات التفضيل فهي – عندي – ترتبط ليس بمجال اشتغال المفكر بل بالإنجاز الذي قدمه في هذا المجال. فلدينا تبعاً لآليات التفضيل درجات للمفكرين؛ فثمة المفكر المبتدئ وثمة الخبير وثمة المبدع وثمة المقلد وهكذا. وهذه الدرجات موجودة حتى في الشعر، فنحن نطلق لقبَ الشاعر على أبي الطيب المتنبي ومحمود درويش ومحمد الثبيتي كما نطلقه على شعراء آخرين ذوي مستوى أدنى منهم بكثير ومع ذلك لا نحس بأدنى تناقضٍ، لأننا نظرنا هنا إلى الموضوع الذي يمتهنه كل منهم دونما اعتبار للدرجات والمراتب التي هي موجودة حقاً ولا نستطيع إنكارها.
وإذا سلَّمنا مع البعض بأن المفكر أعظم من الشاعر أو القاص فإن ذلك نابع من الجهد المضني الذي يبذله المفكر والعبقرية التي تنشأ من أعقد وأصعب ملكات الإنسان وهي ملكة الفهم أو العقل. فإذا كان الشاعر يعوِّل على الموهبة وانثيال الخواطر في وقتِ السحر، حتى ولو كان منقطعا عن القراءة والدرس والبحث الجاد فإن المفكر خلاف ذلك فهو إضافة إلى الموهبة (أو العبقرية) يحتاج إلى أن يجمع إليها غيرَها؛ كالانقطاع التام للتأمل والبحث وإلى تكثيف القراءة والاطلاع في كل العلوم والفنون والمعارف، وربما هذا يفسر لنا لماذا يعيش الشعراء حياة ملؤها الفوضى والسفر والحنين والاستسلام للمزاج المتقلب، ويفسر لنا لماذا يعيش المفكر حياة النظام والرتابة المملة والتعب والهدوء.
أما من هو الفكر؟ فهو سؤال عسير، فالفكر يفلتُ من التحديد الدقيق، ولكنني سأجتهد وأضع بعض الحدود التي ربما تضيق أو تتسع. فالفكر يحد من جهة المنهج ومن جهة الموضوع. فمن ناحية الموضوع يمكن القول إن الفكر هو كل منتجات العقل النظري التجريدي، وهنا نستبعد كل ما يجافي المنطق العقلي ويرتهن إلى العاطفة أو الأغراض العملية ونحوها. ومن ناحية المنهج فهو معالجة الموضوعات - أياً كانت - بطريقة مزدوجة؛ سلبية تنهض على ملكة النقد الجذري الصارم الذي يعود إلى الأصول والبدايات ولا يقف عند مسلمات أو مبادئ لا تبرهن على ذاتها بذاتها، وإيجابية تنهض على القدرة على التجريد واستخلاص القوانين الصورية والعامة للأشياء والظواهر والأحداث، واقتراح أفكار ونظريات جديدة أو تعديل وتحوير وتوسيع نظريات قديمة. وموضوعات الفكر، بالعادة، هي موضوعات كلية عامة وليست جزئية خاصة ولذا فالمفكر (يجرِّدُ) الخصوصيات التي تميز الأشياء ويستبعدها لكي يستبقي ما هو مشترك بينها. فإذا كنا نستسيغ من الشاعر قصيدة في حبيبته أو حديقة منزله أو في الشدو مع الطيور والغناء مع الزهور فإننا لا نستسيغ من المفكر أن يقتصر وينحصر في موضوعات جزئية محدودة، فهو حينما يتحدث عن حقوق الإنسان لا يقصد إنساناً بعينه بل الناس جميعاً، وحينما يتحدث عن العقل فلا يريد به عقلاً معيناً بل العقل الإنساني الكلي. ولهذا كانت الأفكار والنظريات الفلسفية أدنى إلى قبول جميع الناس من الشعر أو القصة (تذكَرْ - أيها القارئ - موقفَ الثقافة العربية القديمة من الفلسفة والشعر اليونانيين)؛ إلا إذا لمسنا أو التمسنا في الشعر والقصة صفةً أصيلة من صفات الفكر وهي (الكلية). وعليه فإننا لا نتورع كثيراً في إطلاق صفة المفكر على شعراء كبار وإنسانيين عظماء كعمر الخيام، والمعري، وسعدي وحافظ الشيرازيينِ، وهولدرلين، وريلكه وغيرهم. أما الشعراء المؤدلجون الذين لم يخدموا قضايا إنسانية كلية أو لم يتركوا في بناء القصيدة نافذةً تنفتح على الشعوب الأخرى وتسمح بإقامة جسور التواصل الحضاري فقد ماتوا ومات شعرهم.
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة
أخبار ذات صلة