إن من أعظم الأشياء التي تفوق بها بنو البشر على بقية الكائنات الأخرى هي اللغة، فاللغة ليست مجرد أصوات وإنما هي تعبير عن فكر وشعور ورغبة في التواصل. والذي يجعل الشاعر يحتل مكانة كبيرة لدى الشعوب الإنسانية قاطبة هو مقدرته اللغوية، أي تفوقه على بقية البشر في الشيء الذي تفوقوا به على غيرهم من الكائنات. كما أن العالِم والفيلسوف يتفوقان على البقية في ملكة العقل التي يختص بها الإنسان ومن هنا فقد حازا على المكانة الرفيعة والمنزلة العالية. لا فرق بين اللغة والعقل، وفي اليونانية فإن العقل واللغة مترادفان ويشار إليهما بكلمة واحدة هي (لوغوس). إنني لا أريد أن أتحدث عن الشعر بصفة عامة فهو أكثر الموضوعات التي تكلم عنها المتكلمون وملأ بها المثقفون صفحات الكتب والجرائد، وما أريد الحديث عنه بعد هذه المقدمة السريعة هو الشعر الشعبي أو العامي أو ما يسمى خطأ الشعر النبطي. وسوف أبدأ بموقف المثقفين والمفكرين السعوديين تحديداً من هذا الشعر. وبكل أسف فإن الموقف سلبي، فهم يرفضون هذا الشعر جملة وتفصيلا وكأنه عار أو خطيئة. أما القلة القليلة الذين التفتوا إليه فإنما فعلوا ذلك من أجل دراسته دراسة تاريخية أو إنثروبولوجية أو سيميائية، أقصد أنهم يدرسونه لغرض تاريخي توثيقي أو من أجل وصف العقلية الاجتماعية الشعبية التي يعبر عنها هذا الشعر ويرمز لها، ولم يدرسوه دراسة فنية وجمالية كما يليق بكل شعر. ربما أن من مقتضيات التثقف هو الإعراض التام عن كل ما يتصل بالأعراف البدوية، وهذا خطأ كبير ؛ ففي هذه القيم القديمة إمكانات كبيرة قادرة على حفز التفكير والتأمل. وبينما نجد المثقفين السعوديين يحتفون بشعراء شعبيين عرب كأحمد فؤاد نجم والأبنودي وطلال حيدر ومظفر النواب نجدهم بالمقابل يتجاهلون الشعر الشعبي السعودي وخصوصاً البدوي تجاهلا تاما. ومن أجل هذا فقد كانت ردة فعل الشعر الشعبي مماثلة للفعل، فأعرضوا عن المثقفين وعن أفكارهم وانحازوا للفكر التقليدي بل وحتى المتخلف ورسخوا دعائمه، وكان من الممكن أن يكون لهذا الشعر قوة تغييرية هائلة لو اصطلح مع المثقفين ولو رعاه المثقفون، فقدرته على تغيير الوعي والتطور به تكفله شهرته الطاغية وامتلاكه لعقول الناس. لقد فقد المثقفون الجسر المتين الذي يوصلهم إلى عقول وقلوب الناس بفقدهم للصلة مع هذا الشعر. ليس بالضرورة أن يكون الشاعر الشعبي مثقفاً لكي يكون قادراً على الإصلاح العقلي والتغيير الاجتماعي بل يكفيه أن يمتلك الإحساس العميق والجاد بوجود الإنسان وبمشكلاته وأن يواكب في شعره حركة التطور التاريخي من خلال حدسها والتنبؤ بها، فالحدس والتنبؤ امتيازان للشاعر كشاعر. ومن خلال اطلاعي ومتابعتي للشعر الشعبي السعودي وجدتُ أن كثيراً من الشعراء الفحول يتوفرون على خطرات فلسفية مذهلة وإيحاءات فنية رائعة رغم أنهم ضعيفو التحصيل العلمي والفني، فمن أين جاءت هذه الخطرات والإيحاءات ؟ لقد جاءت بها الموهبة التي احتار في أمرها الحكماء والعلماء.. الموهبة التي نسبها العرب قديما للجن ولوادي عبقر، ونسبها اليونان لربة الشعر التي تلهم بالغرائب والعجائب، وقد كان أفلاطون يرى أن الشعراء يتلقون الإلهام دون أن يفهموه، وأن المنشدين هم المخولون بتأويله وتفسيره، أي أنهم فلاسفة بالفطرة ومثقفون دون أن يشعروا. ومن هؤلاء الشعراء المبدعين من تحصَّلَ على قدرٍ لا بأس به من العلم والثقافة ولكنه اعتمد في قول الشعر على الملكة السرية التي لم تنكشف بعد ولا أظنها ستنكشف، فهي رأسمال الشعر الرمزي وهي التي تجعل الشعر شعرا وليس شيئاً آخر.
إن الشعر بطبيعته ذو نزعة تغييرية وخارق للمألوف لأنه لا يستعمل نفس الكلام الذي نستعمله في حياتنا اليومية، ولكنه يتصرف به وينحرف به عن جادة الكلام اليومي فيخلق بذلك شعراً. وليس معنى كلامي أن الشعر هو مجرد انحراف عن الكلام العادي بل نبهت إلى أهمية الموهبة والإلهام. إن انحراف الشاعر بالكلام وتغييره لطريقة القول هو الصفة التي يجب أن تصبغ الشعر كله، أقصد أن على الشاعر أيضاً أن ينحرف عن المعنى السائد ليكشف لنا عن إمكانات أخرى يمكن للأشياء والموجودات أن تتضمنها. وحينما يتخلى الشاعر عن الطريقة المألوفة للقول فإنه يصدم - بادئ ذي بدء - الحسَّ المشترك لدى الناس فيظنون أنه يكذب ويفتري، وهو في الحقيقة يكذب ولكن ليس بالمعنى الأخلاقي بل بالمعنى الفني. وكما قال العرب فإن أعذب الشعر أكذبه. ولو اكتفى الشاعر بأن يقول ما يريد الناس وأن يصف ما يرى وصفاً مباشراً فلا قيمة لشعره، وبهذه المناسبة أذكر أن بعضاً من الناس تحدوا الشاعر الشعبي الكبير سعد بن جدلان الأكلبي أن يقول شعراً لا يكذب فيه، وقد فشل الشاعر في هذا التحدي لأنه يعرف أن الكذب (الفني) هو أساس الشعر، فقال – في لحظة صدقٍ فنية لا فائدة منها – : (يا راكب اللي دركسونه دركسون * ومكينته تحت كبوته مكينة/ وسويتسه سويتس والطبلون طبلون * ويساره يسار ويمينه يمينه/ كان كْفراته برجستونٍ برجستون * واللي مهيب زينةٍ مهيب زينة)، وهي في مسارها الدلالي الفجّ تشبه قول الشاعر القديم (كأننا والماء من حولنا * قوم جلوس حولهم ماء). وقد أعطى ابن جدلان بهذه الأبيات درساً رائعاً في معنى الشعر وقيمته. أخيراً فإن هناك من الشعراء الشعبيين من هم في حاجة – بسبب موهبتهم الفائقة وقدرتهم على تشكيل الوعي الفني لدى الناس – إلى تواصل المثقفين معهم والتقائهم بهم في الندوات والمحافل الشعرية وغيرها.

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة