من الواضح – تاريخياً – أن مفهوم الحرية هو مفهوم حديث نسبياً، فهو وإن كان له نوع من الحضور قديماً في علم الكلام والفن ولدى النخب الثقافية، إلا أنه من الملاحظ أن ثمة مجالاتٍ عديدة للنشاط الإنساني افتقرت إلى مفهوم الحرية، وخصوصاً المجالات العملية والشعبية، وأما في مجال الأخلاق والسلوك والتربية فيمكن القول إن الحرية كانت فيه منقوصة تماماً، وحديثنا سيكون عن مجال التربية. عربياً يلاحظ أن التربية تقوم على أخلاق الطاعة والإذعان، وأن مبدأ الحرية يعد من اللامفكر فيه، فالطفل الصغير ذو عقلٍ قاصر ولا يمكن أن يعطى زمام أمره بيده فيهلك نفسه. وهذا صحيح في بعض الأحوال، ولكنَّ مصادرة حرية الطفل نهائياً لا يبررها كونه قاصرا أو جاهلا.. وكان من الممكن أن يتم تدريبه على الحرية تدريجيا. نعم، فالحرية يمكن اكتسابها بالتدريب والتربية، ويصعب على المرء الذي يعيش طوال حياتِه خاضعاً ذليلاً أن يتعوَّد على الحرية ويتقبلها، بل ربما يرفضها. وهي، إذا فهمناها على الوجه الصحيح ليست شيئاً آخر سوى المسؤولية ومن أجل ذلك فإنها عبء ثقيل ولكنه شريف ونبيل. فإذا عرفنا كيف نربي الطفل على أن يكون حراً في اختياره، مثلاً، لأشيائه الخاصة ؛ كملابسه وألعابه وكتبه وغيرها نكون قد علمناه – ضمناً – معنى الحرية والمسؤولية. والمسؤولية هي أن يتحمّلَ المرءُ تبعة اختياراته الحرة. فلا مسؤولية بدون حرية. أما إذا كان الأب أو الأم يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، ويختار هو لابنه أشياءه الخاصة فإنه يقتل فيه روح الاختيار الحر، وهذا ينتهي به إلى الفشل في مستقبل حياته لأنه لا يقوى على حمل المسؤولية. فالمعرفة الحقيقية والنجاح يقومان على الاختيار والخطأ والتغلب، من ثم، على الخطأ، وهذا لا يتوفر للمرء ما لم يتربَّ تربية صحيحة على الحرية.
وكلما وسّعنا مجال اختيارات الطفل كلما كانت فرص نجاحه في الحياة أكبر. ومع ذلك فهناك ضوابط وحدود لحرية الطفل ولكنها قليلة ويجب أن نحرص على أن تكون قليلة، فالحرية التي نقرّ بها ثم نقيدها بقيود كثيرة ليست حرية، ولكي يكون هذا المفهوم فعّالاً وذا أثر إيجابي في الشخصية الفردية وفي المجتمع فلا بد من محاولة التقليل من الضوابط والقيود قدر الإمكان ؛ وأهم هذه القيود – في مجال حرية الطفل - ألا يلحق الضرر بنفسه أو بالآخرين. وبرأيي فإن هذا هو الضابط الأهم – وربما الوحيد – الذي نضعه نصب أعيننا حين نربي أولادنا على الحرية.
فللطفل الحق في اختيار ما يناسبه من أشياء وألعاب وأصدقاء وكتب وملابس.. بل له الحقُّ في اختيار المدرسة التي يرغب فيها والهواية التي يريد، لأنه في النهاية سيكون مسؤولاً عن اختياره، وسوف يتعلَّم بالتدريج أنَّ عليه قبل أن يختار شيئاً ما أن يفكِّرَ ملياً لأن أحداً لن يتحمّل عنه نتائج فعله أو اختياره أو قوله. ولكنني ألاحظ أن كثيراً من الآباء يسرف في التدخُّلِ في شؤون أطفاله فيصبح بمثابة العقل الذي به يفكرون، واليد التي بها يكتبون ويرسمون، والقدم التي بها يمشون، والقلب الذي ينبض نيابة عنهم بما يشاء من مشاعر ! وربما يختار لأطفاله الفريق الرياضي المعين والأغنية المعينة والقصيدة الفلانية والمتنزّه الفلاني !.
كلنا نعرف أن الأب يفعل ما يفعل بناءً على عاطفة الأبوة والحب لأبنائه والخوف عليهم والإخلاص لهم – ولكنّ هذا أسلوب تربوي خاطئ تماماً. فالتربية الحقة هي التربية الحرة.. دعهم يفعلوا ما يشاؤون – مع مراعاة الضابط الذي أشرنا إليه – ودعهم يشتروا ما يريدون، ويختارون ما يرغبون فيه. ومن المؤكد أنهم سيقعون في أخطاء كثيرة ويواجهون صعاباً جمة، فلا مبرر للجزع في هذه الحالة ولا مسوغ للتدخل في شؤونهم لإزالة الصعاب أو لتوجيههم نحو الصواب، بل دعهم يقوموا بذلك بأنفسهم، فهذه الصعاب والعقبات والأخطاء والطيش والحماقات كلها في المحصلة النهائية خير للطفل، بل إنها هي المعلِّم الحقيقي. لا حرية بدون أخطاء، ولا معرفة بدون محاولة التغلب على الأخطاء، أي لا مسؤولية يمكن للطفل أن يتحملها دون خوض تجربة الخطأ ذاتها.
بقي أن أشير إلى نقطة هامة، وهي أن البعض يتضايق بل يرتاب من كلمة حرية ويتعامل معها – بوعي أو بغير وعي – وكأنها منتَجٌ أوروبي أو أمريكي، وقد يربط بينها وبين نوع من الممارسات المرفوضة عربياً وإسلامياً فيقف في وجهها ووجه كل من يروج لها.. وأقول له ولمن يعتقد بمثل هذا الاعتقاد أن تصوركم هذا مجرد وهمٍ وليس من الحقيقة في شيءٍ. فالحرية أسمى وأجل صفة يمكن أن يوصف بها الإنسان، بل هي شرفُه وعزته ومن خلالها يحقق المرء ذاتَه ويحمل عبءَ المصلحة الخاصة والمصالح العامة المناطة به عن طيب خاطر وعن رضا، فالحرية جوهر إنساني لا علاقة له بعرق أو دين أو لغة. إنها الميزة التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان، لأن الحرية تفترض أن يكون المرء عاقلاً مسؤولاً، والعقل هبة البشر. وأقول أيضاً إذا كانت الحرية منتجاً أوروبياً فهل يعني هذا أن العبودية منتج شرقي أو عربي ؟! بالتأكيد لا. ولذا علينا أن نعيد النظر في تصور الحرية وأن ننقيه من الشوائب التي علقت به، كما – وهذا هو الأهم – أن نقتصد قليلاً في وضع القيود على حرية أبنائنا وحرياتنا، فالحرية المكبَّلة بالقيود عبودية.

للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة