-A +A
نجيب يماني
لم يكن تقدم المملكة خمس مراتب عالمية في منظور «القوّة النّاعمة»، ودخولها لأول مرة ضمن قائمة الـ20 دولة الأعلى في العالم، حدثاً غير متوقع بحيث يثير الدهشة والاستغراب؛ بل على العكس من ذلك تماماً؛ فإن مظاهر الدهشة والاستغراب لدي أكثر حضوراً جرّاء تأخّر مؤسسة «براند فاينانس» في تقديم المملكة في قائمتها إلى هذا العام، رغم كل المؤشّرات والدلائل التي تفضي في محصلتها إلى سبق المملكة، وإسهامها المنظور وغير الخافي، في كافة العناصر والمؤشرات المعتمدة لدى «براند فاينانس» في هذا التصنيف المهم، والمتمثلة في العلاقات العالمية، الألفة والشهرة، السمعة، التأثير، التجارة والأعمال، الحوكمة، التراث والثقافة، الإعلام والاتصال، الناس والقيم، الاستدامة، والتعليم والعلوم.

وإذا ما احتكمنا إلى تقديرات مؤسسة «براند فاينانس»؛ فإننا أمام أربعة مؤشرات أساسية متمثلة فى الألفة والشهرة، السمعة، التأثير، والعلاقات الدولية، هي التي وضعت المملكة في المركز الـ(19) من بين (121) دولة حول العالم، وراوحت كذلك ترتيبها بين الثاني والثالث على مستوى الشرق الأوسط، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن ننظر إلى التقدم الكبير الذي أحرزته المملكة في هذه المؤشرات وغيرها بمعزل عن رؤية 2030، بوصفها العامل الحاسم الذي أعاد ترتيب البيت السعودي، وضبط إيقاعه على ميسم التوافق المنسجم مع الروح العالمية، والمستعلي بقيمه الأساسية، دون تزيّد أو مغالاة أو تقزيم أو إفراط، ولعل هذا ما يحملني إلى القول بأن مؤسسة «براند فاينانس» ربما فاتها أن تقرأ بعين البصيرة النافذة بقية المؤشرات الأخرى في منظومتها، وتناظرها في الواقع السعودي اليوم، وبخاصة فيما يتصل بـ«التراث والثقافة»، ذلك أن المملكة صاحبة إرث تاريخي وحضاري عصيّ على التجاهل، وله تأثير واضح في المحيط الإقليمي والعالمي، والمحمول والمحتوى الثقافي السعودي جوّاب وطوّاف، والجهود المبذولة في هذا الجانب مقدرة وذات أثر كبير بالنظر إلى تخصيص وزارة الثقافة، وإنشاء عدد من الهيئات الفاعلة في هذا الجانب مثل هيئة التراث، ومثلها للموسيقى والمسرح والسينما، فضلاً عن إنشاء القنوات العديدة، والمشاركة الفاعلة في المحافل الثقافية المختلفة، وتثبيت أجندات سنوية لفعاليات ثقافية وتراثية ذات صدى إقليمي وعربي مشهود، فكل هذه الشواهد كانت كفيلة بأن تأخذ حظها من التقيم في مؤشرات المؤسسة وتدفع بمركز المملكة إلى الموقع الذي تستحقه كفاء جهودها، والحال نفسه يمكننا أن نسوقه فيما يتصل بالإعلام والاتصال، والحوكمة، التي تضرب المملكة فيها بسهم وافر من خلال الجهود الكبيرة التي تقوم بها «هيئة الرقابة ومكافحة الفساد»، والقوانين التي تحرّك دولاب العمل في القطاعات المختلفة بما يشير إلى قدر كبير من الاطمئنان لنزاهة الأنشطة والعمل في المملكة بنسب كبيرة، محروسة بقيم أصيلة.


أما في موضوع النّاس والقيم، فإن مكوّنات «القوّة النّاعمة» ومحركاتها تبقى جزءاً أصيلاً من تشكيل المجتمع السعودي قديماً وحديثاً، متى ما استصحبنا معنا المفهوم الأساسي لمقترح هذا المصطلح الأمريكي جوزيف ناي، الذي يؤطره بالإشارة إلى أن «القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع»، وهي مؤشرات يتسم بها الخطاب الإنساني في المملكة منذ القدم، استناداً إلى مرجعيته الدينية والحضارية، ولست هنا بصدد الاستشهاد بالمنقولات القرآنية والشواهد من السنة المطهرة بوصفها المكونات الأصيلة للشخصية العربية والإسلامية عموماً، والشخصية السعودية في حاضرها المورق.. فهي صاحبة سبق في القوة الناعمة سبيلا للإقناع، وتكفي الإشارة فقط إلى الآية الكريمة: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»؛ ففيها الغنى والكفاية لبيان الموجهات الوضيئة في رحلة الإقناع والاقتناع.

ولئن كانت بعض التيارات المتطرفة في بلادنا قد اختطفت هذا الخطاب وشوّهت صورته المشرقة، وقدمت نموذجاً سيئاً، وصنع صورة شائهة للفرد السعودي؛ فإن «الرؤية» قد أعادت ترتيب ذلك في وقت وجيز، فقد وقف عرّاب «الرؤية» بحزم أمام «الصحوة» واستطاع أن يعود بالمجتمع السعودي إلى سابق عهده معتدلاً في تفكيره، وسطياً في نهجه، معتزاً بقيمه الأصيلة دون غلو أو تطرف، ماضياً نحو تنميته بروح الواثق، وعزم المقدر، وهي رحلة لا شك عندي ستنتهي بنا إلى خير كثير، وتقدم سيدهش العالم، وسيتعين على مؤسسة «براند فاينانس» أن تعيد تقييمها وفق الواقع المعيش، والمتغيرات الجذرية التي حصلت في بينة المجتمع السعودي ما بعد «الرؤية». وحفظ الله وطني وصاحب رؤيته المباركة.