-A +A
فؤاد مصطفى عزب
اليوم تتسع لهفتي للذهاب إلى (كنساس سيتي) حيث أحباب لي، تركوا رماداً هنا، وأضاؤوا السفح بالحنطة هناك، وذلك بعد أن سئمت من الجلوس والتحديق عبر نافذة زجاجية، متأملاً هذا القلب الكبير الذي أصبح مجرد مضخة. وأشاهد الحياة تتعرى تحت مصابيح المستشفى مساء، والكلاب تلعق الفرح صباحاً من خطوات الزائرين. لقد أصبحت في بعاد (فراس وآدم) أكتب حروفاً أشبه ما تكون بوردة يابسة في كتاب، وأتحدث بانكسار المسنين، وأحمل جسداً هو علامة استفهام كبيرة، ينتشر الشوق والحنين فيه، مهما أرسلت الشمس من عمالها لتخفيف هذا التعب المفتوح، أبكي على البكاء وأضحك على الضحك. يبس الريق وأنا أستجدي الأطباء أن يطلقوا سراحي، كأنني أستجدي مطراً لا يجيء، وتقرحت عيناي من متابعة قمر يذهب وحيداً إلى بيته كل مساء، وتبلدت أذناي من الإصغاء إلى طرق خفيف على باب مؤصد. أصبحت حزيناً كاحتراق مدينة، أذبل كل يوم كوردة في إناء، مكسور في هذه المدينة المتوحشة. لقد اشتقت حقاً لمنظر البرق يحدق في زجاج نوافذ منزلي العريضة في (كنساس سيتي) ولقدر كبير من الشتاء القادم، ولفرك أحجار جرانيتية في حديقة داري براحتي، والاغتسال على حافة نهر (الميسوري) المثلج، والجلوس إلى حفيدتي (سارة) التي أفتقدها كثيرا، (سارة) التي تمص أرنبة أذنها ماسة، ويبتسم النمش على كتفها، وتتحرك ستائر غرفتي عند ذكرها، ويرشح من عينيها العسليتين الضوء، ويسبح شعرها الأشقر فوق كتفها كسفينة على متنها بحارة طيبون، وردة العالم هي، من لها رائحة الربيع، وعلى جبينها سياج الورد، من تبتل الفصول بعطرها، وأرى في كفها السماء، ومن ابتسامتها تتفتح أزارير القلب لتأخذ ما تشاء من نبضات. اشتقت فعلا لعسل النهر، ولثلج يدوم، والاستحمام برغوة الوجد، والسهر أمام مدفأة مع زوجتي يطقطق الحطب داخلها كتعدين الأيام، رغبة قوية تجتاحني اليوم.. مثل عناق طويل، كشخشخة المفاتيح في قلب رجل مسن، كهواء محبوس في خوذة، أصبحت ألهث خلف أحصنة في طريقها إلى ماضي قرية ردمت بالثلج. لقد مللت حقاً من ارتداء هذا المعطف، ومغادرة هذا السرير، والتخلص من هذا المكان.

ابن الفوضى وتقلب المشاعر ستنادونني، نعم يا سادة.. ولم لا؟! فلم أعدكم يوما أن أتغير كإنسان، والأيام نفسها لم تتغير، فاللحظات ظلت خشنة، وإن تبسمت لي أحيانا بالمقلوب، لقد حملت مظلتي، وأقفلت حبسي، بعد أن بشرني المشرف على علاجي أنني سأكون حرا طليقا أراجعه وزمرته عبر العيادات الخارجية، إلا أنه عاد، وابتسامة تشفٍّ على محياه وغيّر رأيه، وذلك بعد أن ربطت رجلي برجل نسرٍ عله يطير. عفواً على صراخي اليوم، الذي أصبح ينطلق من حنجرة كفتحة فرن ساخن، ولكن (للصبر آخر.. خلاص) على رأي العبقري (عبدالكريم عبدالقادر) الذي يغنيها كسحبة قوس لأوتار كمان، فأقسى ما يمر به الإنسان أن يتحول من يحب إلى صور على سطح شاشة هاتف نقال، ويصبح الوصال عبر الهاتف.. وما زال الحنين مستمرا..


أؤمن أن الله لا يدع ثقال الأيام تدوم.. عسر، ثم يسر، ثم سرور.. فهو من أقسم مرتين: إن مع العسر يسرا.. فإن مع العسر يسرا..

اللهم بشرني بالشفاء التام كما بشرت يعقوب بيوسف.. وبشرني بالعودة إلى أهلي كما بشرت زكريا بيحيى.. اللهم بشرني بما أنتظره منك وأنت خير المبشرين. اللهم اسكب في جسدي نهراً من الراحة في أوردتي.. ربِّ أرح ثم هوّن.. ثم اشفِ.. كلي أمل فيك يا رب، ومن أمله فيك.. لن تهزمه الهزائم.. ولن يؤلمه الألم.. ولن تكسره المحن.. ما دام يردد: إن مع العسر يسرا.

فإن مع العسر يسرا..

صدق الله العظيم.