بين عشية او ضحاها يصبح الدين الذي يوصف في الشرع بأنه قهر الرجال، طوق نجاة للكثير من المتلاعبين الذين ينجحون بطريقة او بأخرى في استصدار صك اعسار يجعلهم بعيدين عن طائلة المطالبات. وفي يوم وليلة، او أشهر معدودات لا يستطيع صاحب الحق المطالبة بأمواله او استرداد حقوقه، والسبب بكل بساطة ان المدين يمتلك صك اعسار. ورغم ان الاية الكريمة في قول الله عز وجل واضحة { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ }، الا ان الكثير من المدينين يقعون في احضان الشيطان ويرون ان افضل طريقة للاستيلاء على امول العباد بهذا الصك، دون تفكير في عقوبة الله عز وجل، او مراعاة لابسط ابجديات رد الجميل لمن كان عطاؤه في يوم ما سببه رفع الهم او الاذى عن شخص ما. فاذا كان صك الاعسار ضرورة كفلها الشرع الحكيم، فهل التلاعب بهذه الضرورة يوجب اصدار المزيد من الضمانات التي لا تجعل صكوك الاعسار لعبة لمن هب ودب والراغبين في الهروب من سداد حقوق العباد.. ام ان الامر يحتاج الى توعية دينية حتى لا يجد أصحاب الايادي البيضاء انفسهم مضطرين الى ارتداء ثوب البخل احيانا، والامتناع عن فعل الخير في الاحيان الاخرى.
وكيف يمكن ان يسترد صاحب الحق أمواله اذا واجهه المدين بصك الاعسار. وكيف نحد من تكرار مثل هذه القضايا، والتفريق بين المستحق لصك الإعسار وبين المتحايل عليه؟
منذ عشر سنوات استدان رجل من رب اسرة 500 ألف ريال، ولضمان اعادة المبلغ حرر بقيمته شيكاً لصاحب الحق، على أن يتم تسديد المبلغ بعد سنة، ومضت المدة فذهب الاب لصرف الشيك إلا أنه فوجئ بأن الرصيد فارغ، فطالب المدين بالسداد، لكنه لم يجد التجاوب بحجة أنه لايملك المبلغ، فرفع صاحب الحق قضية حقوقية ضد المدين، عندها حضر المدعى عليه ومعه صك إعسار يثبت فيه عدم قدرته على السداد بالرغم من انه موظف كبير في إحدى الشركات وجميع ابنائه موظفون وفي مناصب كبيرة وصك الإعسار يسقط عنه حجة سداد الدين، وامام طول المدة ووفاة صاحب الحق ورث ابناؤه قضية المطالبة بأموال والدهم، لكن مرت عشر سنوات ولا حل للقضية.
أما صالح الغامدي فاراد تقديم معروف لصديقه فدينه مئة الف ريال، على ان يرد المبلغ خلال عام، لكن بعد انقضاء المدة هرب الصديق، فتقدم الدائن بشكوى في المحاكم، ليجد امامه صك اعسار قدمه الصديق يمنعه من استرداد أمواله.ويبدو أن التجار أكثر فئة تتعرض للصدمات من صكوك الاعسار، في ظل عملهم الذي يتطلب في أحيان كثيرة البيع بالتقسيط، يقول التاجر محمد الحكمي إن المماطلين في سداد الدين يجعلون صكوك الإعسار وسيلتهم الوحيدة للهروب من السداد، لثقتهم بأن فاعلي الخير سوف يقومون بالسداد عنه اذا ما دخل السجن وبالتالي ما على المتضرر الا الانتظار حتى يسترد حقوقه.
ويضيف التاجر احمد عبدالله ان المدين ما ان يواجه مطالبات وجلسات أمام القاضي الا ونجده قدم ما يدعي اعساره، وبالتالي فان المتضرر الوحيد نحن التجار، حيث تضيع حقوقنا وننتظر من يسدد عن المدينين، والسؤال لماذا يلجأ البعض للاستدانة إذا كانوا غير قادرين على السداد، والإجابة المعروفة هي ان المماطلين في السداد يعتمدون على صكوك الإعسار ويثقون في الحصول عليها.
ملفات المديونية
لدى شرطة جدة والحقوق المدنية قصص عديدة، وهناك موقوفون في السجون بعضهم بسبب مبالغ زهيدة، واخرون بسبب ملايين، ابرزهم قضية رجل اعمال أوقف في قضية حقوقية بمبلغ 140 مليون ريال، ليودع السجن كغيره بمن في ذمتهم الف ريال!!
وأحد مشغلي مساهمات سوا أوقف في السجن لمطالبته بما يقارب المليار، وآخر طالبه المساهمون بمبلغ 700 مليون ريال.
وتشير ملفات المديونية الى ان الذين في ذمتهم مبالغ كبيرة تتعدى الملايين يتم التحقيق معهم، لان المسألة في هذه الحالة لاتقتصر على المديونية والعجز عن السداد فحسب وانما يتجاوز ذلك لعمليات النصب فقبل ان يكونوا مدينين فانهم مارسوا الاحتيال الذي اوصلهم للحقوق الخاصة، وحسب المعلومات فإن عدد هؤلاء لا يزيد عن «30» سجينا لكن بقية السجناء من الرجال والنساء عليهم ديون بسيطة معظمها تتعلق بمتطلبات الحياة واشهرها ايجارات متراكمة.
ثلث السجناء معسرون
وبعودة الى السجلات القديمة وبرصد الديون المتعثرة او الاموال الضائعة والمعلقة او السجناء المعسرين يتبين ان هناك ما يزيد عن 850 معاملة يومية داخل مكاتب الحقوق بجدة وان اكثر من 35% من السجناء قضاياهم حقوقية، وتصل نسبة القضايا الحقوقية في المحاكم الشرعية الى اكثر من «60» من مجمل القضايا.
كما تسجل يوميا جلسات قضائية في مجلس القضاء الشرعي في قضايا تبدأ من «500» ريال حتى عشرين الف ريال في الجزئية وتحتل قضايا ايجارات البيوت المرتبة الاولى في القضايا الحقوقية تليها الديون ومبالغ مقابل خدمات للعمال وخلافه.
يؤكد قاضي محكمة صبيا فضيلة الشيخ خالد احمد بشير معافا انه لا يمكن لأي شخص استصدار صك الإعسار إلا بشروط محددة منها إثبات الدائن ماله بذمة المدين بحكم شرعي وإذا ثبت ذلك إلى الجهاز التنفيذي للحاكم الإداري لإنفاذ الحكم الشرعي وإن امتنع المدين عن دفع ما عليه يرفع الأمر للحاكم الإداري للتوجيه بما يراه ويوجه الجهة المختصة في إنفاذ الحكم الشرعي فإن امتنع بدعوى غير الإعسار وطالب الدائن بإيقافه فإنه نظاما يوقف عشرة أيام ويتم عرض القضية على قاضي المحكمة لإبداء مرئياته حيال استمرار سجنه من عدمه وفق المادة 230 من نظام المرافعات الشرعية
وأضاف بأنه تعرض القضية لدى قاضي المحكمة مصدر الحكم لإبداء مرئياته بإيقاف المدين استظهارا بحاله ويحدد القاضي مدة سجنه حسب ما يتفق مع الإجراءات الشرعية ويوجه الجهات المختصة بالبحث في ممتلكاته الثابتة والمنقولة وتوجيه خطاب إلى مؤسسة النقد للبحث في أرصدته بالبنوك ويوجه صاحب الدين بالبحث عن ممتلكاته وإذا وردت الإجابات من الجهات المختصة والبنوك بعدم وجود أرصدة له أو ممتلكات ثابتة أو منقولة وبعد انتهاء مدة سجنه يحال إلى المحكمة للنظر في إعساره بالوجه الشرعي ومتى ما ثبت إعساره لدى القاضي فإنه يصدر حكما بذلك شرعا وإنظاره إلى حين ميسرة .
ويشير قاضي التمييز المتقاعد فضيلة الشيخ احمد بشير معافا إلى أن المدين المعسر هو من يقوم برد الدين بعد أن تتيسر أموره وفقا لقوله تعالى ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) هذا إن كان الذي عليه الحق معذورا ويريد السداد ولكن إن كان مماطلا ويجد عنده ما يسدده فهذا يعتبر ظالما لقوله صلى الله عليه وسلم ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه , ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله )
وأضاف بأن على التجار والمدينين عدم إعطاء حقوقهم للآخرين إلا بعد اخذ الضمانات والكفالات عليهم كي يضمنوا استعادة أموالهم.
الاعتراض على الصكوك
وقال مصدر في احد المحاكم الشرعية أنه لايمكن استخراج صك اعسار لمن عُرف بالتلاعب بأموال الناس كما لايمكن النظر بطلب صك الإعسار من طرف مدعيه فقط بل لابد لصاحب الحق ان يطالب بحقه فإذا صدر حكم على المدعى عليه والزم بالدفع فانه يسجن ولو ادعى الإعسار فإذا بقي في السجن مدة يغلب على ظن الجهة المختصة انه لو كان عنده شيء لم يصبر على السجن فإنها تبحث عن موجوداته وتطلب من غرمائه حصر ماله من نقدٍ وعين فإذا لم يوجد له شيء أحيل للمحكمة للنظر في دعوى الإعسار بمواجهة الغرماء واذا تحقق للقاضي انه معسر وثبت ذلك بالبينة العادلة التي تخبر حاله وحكم بذلك فمن حق الغرماء الاعتراض على الحكم وتقديم لائحة اعتراض ترفع مع كامل المعاملة لمحكمة التمييز ولايصدق الحكم الا بعد استكماله لمستلزماته الشرعية والنظامية، فإذا تبين بما لايدع مجالا للشك انه معسر فإن الواجب إنظاره الى ميسرة لقوله تعالى (وان كان ذو عسرة فنظرة الى ميسره وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون).
أساليب التحايل
ويشير أستاذ الشريعه الاسلامية الشيخ أحمد النباتي ان هناك وسائل عديدة للتلاعب بحقوق العباد من جانب المدينين، ومنها ان يقوم طالب الصك بافراغ كافة ممتلكاته باسماء اخرين ليثبت انه معسر ولا يمتلك شيئا ويظهر للناس فعلا انه معسر وكذلك فقد يعمد الشخص الى بيع ممتلكاته ووضع قيمتها في حسابات ليست باسمه. وأضاف انه لابد من تخويف حامل الصك بالله سبحانه وتعالى لان النبي صلى الله عليه وسلم قال «من سأل الناس اموالهم تكثرا فانما يسأل جمرا فليستقلل او ليستكثر» ولكن اذا غلب الظن على ان الشخص معسر فيتم اعطاؤه قوت يومه ويترك، مشيرا الى ان هناك بعض «المغرقين» في الديون يريدون الحصول على صكوك الاعسار بأي طريقة كانت لدرجة ان البعض ممن لايخافون الله يتجرأون على الكذب واحضار شهود الزور مقابل الشهادة بأنه معسر لتخليص نفسه من المطالبات او سحبه للمخافر
وابان انه في المحكمة يتم النظر للشخص على انه أعسر الا اذا كان اعساره ناتجا عن تحايله او عملية سرقة او اختلاس اما اذا كان الاعسار ناتجا عن امور عادية كأن يكون قد اعسر بمال لشخص ناتج عن سبب عادي كلف او ثمن مبيع او نحو ذلك فعليه ان يثبت اعساره وفق المعايير الشرعية، والمعسر لايعطى ويسلم له صك الاعسار وانما يتبقى في المعاملة لاتخاذ الاجراءات اللازمة المترتبة على ثبوت الاعسار، وفي حالة صدور صك الاعسار فانه يلزم المطالبين بالدين بالكف عن مطالبة المعسر الا اذا اتى الدائن وذكر ان غريمه له اموال او سلع او «اعيان» اخرى ويكشف عن الامر فاذا ثبت ذلك فان صك الاعسار لايمنع اخذ المال منه وتوزيعه على الغرماء.
وحمل المحامي عبد الله البداح المسؤولية الشركات والمؤسسات والبنوك التي اعطت صلاحيات للاشخاص بالاقتراض دون النظر في رواتبهم، وقال نجد كلا يريد ان يبيع سلعته وبالتالي لايستطيع ان يسجل هامشا للربح فيغرق في الديون، واعتقد انه اذا نظرت الشركات والمؤسسات لاوضاع المعسرين لكفت عن ضياع حقوقها ومطالباتها لهم.
وهناك حالات ثبتت في المحاكم لاشخاص محتالين ارادوا استخراج صكوك الاعسار بعدما اقترضوا من اشخاص اخرين وسجلوا عليهم سندات بالمطالبة بمبلغ متفق عليه على انه في حال التسديد عنه من قبل اهل الخير يتقاسمان المبلغ فيما بينهم حتى ولو كلفه ذلك السجن وكل ذلك نصب واحتيال.
وفي مثل هذه الحالة فان بعض القضاة يمكنهم كشف هؤلاء من خلال الشهود حيث ان اغلبهم يمتنع عن اداء اليمين امام القاضي بأن فلانا معسر وهذا نوع من التدليس ومن ما تم كشفه تصبح المعاملة منتهية الصلاحية ولايتم استخراج صك الاعسار.
لكن المحامي هاني الشريف يرى ان تقاعس البعض عن الوفاء بما عليهم من التزامات امر نادر الحدوث و لايمثل ظاهرة لان الخير غالبا لايقابل الا بالخير لذا فانه يرى ان الكفالة الغرمية لا خطورة منها على نسيج العلاقات الاجتماعية.
واضاف من المفترض على الجهات التي تتعامل بالمداينة ان تتحرى من مصداقية الكفيل الغارم وتقليل نسبة الارباح التي ترفع المبلغ الى حد لايستطيع معه المدين ان يفي مما يرهق كاهله ويجعله غير قادر على الوفاء، وعند اللجوء الى الجهات المختصة في فض مثل هذه النزاعات يلزم حماية الكفلاء الغارمين من مماطلة مكفوليهم حتى لاينقطع المعروف بين الناس كما ان حماية كفلاء الغرم تقطع السبل امام ضعاف النفوس الذين يستغلون شهامة اصحاب الاخلاق الكريمة من الاقارب والاصدقاء لتوريطهم في كفالة غرم ومن ثم يهرب المكفول او يتمكن من اصدار صك باعساره رغم انه يكون غير معسر. سلطان العتيبي يرى أن صكوك الإعسار باتت لدى البعض المخرج الوحيد للتهرب من رد الحقوق المالية إلى أصحابها مشيراً الى ان المدين يلجأ لبعض الحيل لاستخراج صك الاعسار ومنها تحويل املاكه وامواله بأسم احد اقاربه عند تقدم صاحب الحق بالشكوى وعند التحري عن أمواله لا يعثر لديه على أي أموال وبعد فترة سجن لا تتجاوز عدة أشهر يتم إطلاق سراحه وبذلك تضيع حقوق المواطنين خلف هؤلاء المتلاعبين.
ويقول نايف البقمي بأن فترة السجن التي يحددها القضاة للأشخاص المطالبين مالياً قبل استخراج صك الاعسار تعتبر قليلة حيث لابد من تمديدها الى سنوات بدل الاشهر القليلة المعمول بها حالياً حيث يدخل المدين السجن ويعلم بانه سيطلق سراحه بعد عدة أشهر ويستخرج له صك اعسار يعفيه من سداد حقوق الآخرين فيما لو علم بأنه سيتم حبسه لنحو 4 سنوات أو اكثر سيعمل على رد الحق الى اصحابه خوفاً من السجن..
السجن وحده لايردع المتلاعبين وآكلي أموال الناس بالباطل
ضياع حقوق الضعفاء بصك الإعسار
22 أغسطس 2008 - 20:06
|
آخر تحديث 22 أغسطس 2008 - 20:06
تابع قناة عكاظ على الواتساب
ماجد عقيلي، عبد العزيز معافا، أحمد الجبيلي- جازان، حاتم المسعودي – مكة المكرمة، عبدالله المقاطي- ظلم