-A +A
خالد أحمد اليوسف
أحس بالعجز أمام شهقات والده الطاعن بالسن، التفت حوله وجد قارورة الماء، تناولها سريعاً، قرب فم القارورة من فمه، حاول سقايته بتأنٍ، لم يتقبل الماء، زاغت عيناه، جحظتا، ارتفعت سبابته وهو يردد: أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمداً محمداً محمداً... وسقطت يده، أغمض عينيه، نهض ووقف مذهولا، ردد في داخله الأسئلة: أهذا وقت موتك يا أبي؟ اللهم لا اعتراض على قضاء الله وقدره!!

خرج من مهجعه، دار في البيت لا يلوي على شيء، يصعد ينزل لا يعلم إلى أين، أرهقته الأسئلة والحيرة، جلس على آخر درجات البيت، يعلم أن كل شيء محظور، الخروج، الإسعاف، التواصل، مغسلة الموتى، الصلاة، التشييع، المقبرة، الدفن، العزاء؛ ها هو يموت وحيداً، وأبقى وحيداً، ليس لي إلا أن أحفر له قبراً عاجلاً في حديقة البيت، واستطاع في وقت قصير حفره، ثم اتجه إلى والده، قرّب عربته المعتادة، أجلسه عليها، أدخله إلى دورة المياه، فتح ماء الدش المتحرك، وأمسك مقبضه بيده، مكث وقتاً طويلاً ينظف أباه مع كل جانب فيه، وخلط الماء الأخير بالعطر المتوفر لديه، سار بالعربة إلى صالة البيت، بحث عن أي قماش أبيض جديد، وجد بين سجادات الصلاة أردية متنوعة الألوان، جذب أكثرها بياضاً، بدأ يلف به والده من رأسه حتى أخمص قدميه، فلا علم له بطريقة تكفين الميت، خرج وهو يرتعد وتنتفض أطرافه، وقف أمام القبر الذي لا يعلم أهو قبر أم حفرة عادية، تماسك وتشجع وجمع ما فيه من قوة ورباطة جأش، ثم حمل والده بين يديه ووضعه في قبره، كان يهلل ويكبر ويحوقل، ليدفع هواجس كثيرة تساقطت عليه من كل اتجاه، تأكد من وضعه كاملا ثم بدأ بدفنه بشجاعة كاملة، بعد أن انتهى سقط بجانب القبر، خارت قواه وانهمرت عيناه بالبكاء والنشيج، انفجر ما في صدره من شجون متراكمة، فتركها في سبيلها تتطاير أمامه، تذكر الصلاة عليه، ذهب واغتسل من آثار ما علق به من كل شيء، وقف أمام قبر أبيه وصلى عليه، ثم جلس ودعا له دعاءً طويلا، وردد: الحمد لله على ما كتبه الله، الحمد لله على قضائه وقدره، الحمد لله أن موته جاء طبيعياً، الحمد لله أنه لم يرَ ما نحن فيه، ولم يعلم ما يدور حوله من خبث وخبائث. نظر إلى السماء الصافية من بين أغصان الشجرتين الوحيدتين في حديقتهم، وهو يسمع أذان صلاة الظهر، مردداً.. صلوا في بيوتكم.. صلوا في بيوتكم، ثم أجاب عليه: من بقي في مدينتي ليصلي في بيته يا ترى؟ جميعهم غادروها، جميعهم هربوا وتركوني وحيداً، لكن علي أن أحفر قبراً آخر بجوار قبر أبي، لكن يا ترى من سيصور موتي كما صورت موت أبي؟ وتبقى الصور شهادة كاملة للورثة.