-A +A
طلال صالح بنان
من المشاهدات الملفتة، التي أظهرتها جائحة كورونا، ملاحظات على سلوكِ وتوجهِ ونفوذِ الدولة، امتد أثره وطال تأثيره النظام الدولي. أصبح مقبولاً، كظاهرة عامة، في جميع المجتمعات، يستوي في ذلك المتقدمة منها وغيرها، فرض سيطرةَ الدولة، بعيداً عن نصوصِ ومنطقِ تفويض الإرادةِ العامة، بل وأحياناً تحدياً لقناعاتِ الناسِ وإضراراً بمعاشِهم. كما أنه لم يحصل من قبل أن امتد نفوذ النظام الدولي، بعيداً عن مؤسسات الجبرِ والإكراه الأممية، المختصة باستخدامِ القوةِ، للتأثير على سلوك الدول وتوجهاتها.

على مستوى الدول: حدث ما يشبه الانقلاب في وظيفة الدولة السياسية والاجتماعية والأخلاقية.. وكذا في مدى قدرتها على فرض إرادتها القاهرة، بعيداً عن مسؤوليتها الأساسية في حمايةِ حقوقِ الأفراد وحرياتِهم. قد يكون هذا الأمر مألوفاً، إلى حدٍ ما، في مجتمعات الجنوب، إلا أنها سابقةٌ غير معتادةٍ، في مجتمعاتِ دولِ الشمالِ الديمقراطية، مما يشكلُ تحدياً سياسياً وأخلاقياً لأنظمة المجموعة الأخيرة من الدول.


لم يحدث، في التاريخ، في أوقاتِ السِلْمِ، أن تمكنت حكومات الدول، في المجتمعات المختلفة، من سن قوانين طارئة والشروع في تنفيذها، بصرامة وإصرار شديدين، في ظل ما يشبه السلبية الجماهيرية، رغم مساسِها بأغلى قيمة إنسانية، شكلت السببَ الرئيس لقيام المجتمعات البشرية المدنية (الدولة)، ألا وهي قيمةُ الحرية.

قد تكون، أول مرةٍ في تاريخِ المجتمعاتِ الإنسانية، أن يواجه الفردُ (المواطن) الخَيارَ بين حياتِه وحريته. نشأة المجتمعات الحديثة، أُسست على تلازمِ قيمتي الحياة والحرية. الأولى: كحقٍ مطلقٍ لتفسير منطقِ وغايةِ الوجودِ نفسه.. والثانية: كقيمةٍ فطريةٍ لا تقل أهميةً، للاستمتاعِ بالوجودِ، ذاته. عد الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (١٥٨٨-١٦٧٩)، عند معظم فلاسفة العقد الاجتماعي، حق الحياةِ، ليس له معنىً بعيداً عن ممارسةِ قيمةِ الحرية.

لقد ألزمت الحكومات مواطنيها، بما يشبه الاعتقال القسري الذاتي، حبست فيه حريةَ تحركهم، بل وحتى تواصلهم، استغلالاً لغريزةِ حقِ الحياة. أمرٌ، تساوت فيه الأنظمة الديمقراطية والقمعية، معاً. حتى أنّ هذا التطور، قاد بعض زعماء المجتمعاتِ الديمقراطيةِ، للسعيَ لمدِ نفوذِهم وسطوتِهم بعيداً عن الدستورِ والقيمِ المرعية، ليطالَ حريةَ الاتصالِ والتواصلِ، عن بعد. يوم الخميس الماضي: أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أمراً رئاسياً، لمواجهةِ ما أسماه تجاوزات إحدى وسائط التواصل الاجتماعي الإليكترونية (تويتر)!

في المقابلِ: لأولِ مرةٍ في تاريخِ الأمم المتحدة، تكتسب منظمة متخصصة بها، نفوذاً عالمياً واسعاً، تتجاوز به حساسيةَ ومحاذيرَ السيادة الوطنية لأعضائها.. وتثير استقطاباً واسعاً بين الدول العظمى. نجدُ، مثلاً: الدولَ، كبيرها وصغيرها، تنصاعُ «طواعيةً» لما يصدر من منظمة الصحة العالمية، من إجراءات لمواجهة انتشار ڤايروس كورونا... أمرٌ لم تحظ به أعلى مؤسسة تنفيذية أممية (مجلس الأمن)، دعك من أمينِ عامِ الأمم المتحدة، نفسه.

تغيرات غير مسبوقةٍ على مستوى الدولِ والحكومات وسلوكياتِ الفرد، تستحقُ التأمل والدراسة، لم تكن معتادة، من قبل.. والسبب: ڤايروس كورونا.

كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com