في أحدث دراسة أكاديمية للدكتور فوزي عيسى –أستاذ ورئيس قسم الأدب بجامعة الإسكندرية- عن تجربة الشاعر "غازي القصيبي" تناول في مقدمتها تاريخ الشعر السعودي، ومدارسه المختلفة، ورواده الأوائل، والأغراض الشعرية، والمذاهب الأدبية، وأوضح أن هناك أكثر من جيل، وأكثر من حركة شعرية .. وإن كان التيار المحافظ هو الغالب والمسيطر على المسيرة الشعرية في أرجاء المملكة .. ويتزعم هذا التيار الرواد الأوائل أمثال: محمد حسن عواد، حمزة شحاته، والقنديل، ومحمود عارف، وحسين سرحان، والشيخ حسين عرب، وحسن عبدالله القرشي، وغيرهم. إلا أن (التيار الرومانسي) يظل متغلغلاً في الساحة الأدبية ويشكل قطاعاً عريضا، وله حضوره القوي، وبريقه الأخاذ .. وعلى رأس هذا التيار طاهر زمخشري، وعبد الله الفيصل، ويحيى توفيق… وغيرهم.
لكن هناك فريق من الشعراء تمتزج إبداعاتهم بالواقعية والرومانسية، ويجددون في القوالب الشعرية .. ويكتبون في جميع الأغراض الشعرية .. وهذا الفريق له حضوره القوي في الحركة الشعرية وتفاعله مع قضايا العصر والأمة .. وعلى رأس هذا التيار: د. غازي القصيبي، عبد المحسن الحليت، عبد الرحمن صالح العشماوي، عبدالله باشراحيل، محمود الحليبي، خالد الحليبي … وغيرهم.
وفي حديثه عن تجربة غازي القصيبي، يقول المؤلف: لا يستطيع المتابع لمسيرة الشعر السعودي أن يغفل الدور الريادي الكبير الذي اضطلع به الشاعر غازي القصيبي، فقد سبق شعراء جيله في الدعوة إلى التجديد وتجريب أشكال شعرية جديدة، وذلك يتضح في ديوانه "معركة بلا راية" و"الحمى".
كما يمثل غازي القصيبي علامة بارزة في الشعر السعودي المعاصر فهو يقف في طليعة جيل من الشعراء يتميزون بملامحهم الخاصة، وتجاربهم الثرية سواء من حيث الشكل أو المضمون إذ استطاعوا أن يفيدوا إفادة كبرى من تجارب جيل الرواد، ومن تجارب الشعراء المعاصرين لهم في العالم العربي.
عشق البطولة
ومن أبرز ملامح جيل غازي القصيبي: المزاوجة بين الرومانسية والواقعية، والاتجاه إلى شعر التفعيلة ، بجانب استخدامهم للشعر العمودي ، وبذلك مهدوا الطريق لمعاصريهم من جيل الشباب لاستخدام الأشكال والقوالب الشعرية الجديدة
وتمتزج الرومانسية بالواقعية امتزاجا كبيرا في شعر غازي القصيبي، فهو يأخذ من الرومانسية أجمل ما فيها كالطهر والنقاء والتطلع إلى عالم مثالي، ولكنه لا يساير الرومانسيين في هروبهم وضعفهم وسلبيتهم، ولا يشبههم في خضوعهم وتذللهم، انه يتعامل مع قضاياه الذاتية، وهمومه الرومانسية بواقعية شديدة، وهو يصدر في ديوانه "الحمى" عن تجربة شاعر عشق البطولة والطهر والبراءة ولكنه أدرك انه يعيش في زمن مادي يغتال هذه القيم المثالية فأصبح يتلمس طريقه باحثا عن شعاع يبدد ظلمات الحيرة والضياع.
يقول في قصيدة " إفلاس"
يا أهل القرن العشرين
أهل العلم وأهل المال
وأهل التقنية
أهل الصفقات الدولية
هذا الرجل الحيران
أخطأ في العنوان
وأتاكم بالصدفة
من عصر العفة
يحمل أشعاراً عذرية
من خيمة ليلى البدوية
يتغزل في ضوء الأقمار الأصلية
من يهدى الحيران المسكين
يا أهل القرن العشرين!
وحين اصطدمت المثاليات بالواقع، وأحس انه لم يلق في رحلة البطولة والمجد سوى السراب، أحس برعشة الحمى تعتري جسده المرهق، وأمواج الإغماء تحتويه، فألقى بجسده المضنى في أحضان حبيبته، وذهب يلتمس عندها الشفاء والراحة، ويبحث في عينيها عن الاطمئنان والأمان:
أحس بالرعشة تعتريني
والموت يسترسل في وتيني
وموجة الإغماء تحتويني
فقربي مني ولامسيني
مُري بكفيك على جبيني
وقبل أن ارقد حدثيني
قُصي علي قصة السنين
حكاية المشرد المسكين!
صورة المرأة
إن صورة المرأة في شعر غازي القصيبي تختلف عن صورتها في شعر الرومانسيين الآخرين .. وتجربته معها تختلف عن تجربتهم معها .. إنها بالنسبة إليه ليست امرأة أحبها فأضنته وعاش يتعذب من أجلها، ولكنها بالنسبة إليه "الخلاص" و"الملاذ" و"الملجأ" انه يأوي إليها دائما باحثا عن الأمان والطهر والنقاء، إنها بالنسبة إليه "الواحة" التي يستريح فيها من قيظ الحياة وهمومها:
قفي .. لا تتركيني في الرياح
أحارب بالنوازف من جراحي
ومأساة الوجود تحز قلبي
وتلتهم البقية من كفاحي
وفي شفتي أبيات حزانى
تغنت وهى تجهش للصباح
قفي لا تحرميني .. والليالي
نصال في ضلوعي من سلاحي
تنكر لي الصديق فما اندهاشي
وقد قفز العدو إلى اجتياحي
إن القصيبي لا يعبر في شعره عن همومه الذاتية وحدها، بل يعبر عن هموم أمة، انه حزين – ليس لأنه فقد امرأة أحبها، ولكن لأن حاضر أمته قد اغتيل، ومجدها تعرض للذل والهوان .. وهو إذا كان قد فقد الثقة في الأصدقاء وفى الناس، فهو لم يفقدها في المرأة .. ولذلك يتجه إليها ليبثها همومه كلها:
يا أعز النساء همي ثقيل
هل بعينيك مرتع ومقيل
أنا من أمة تخوض وحولا
من هوان وتزدريها الوحول
غسلوا القدس بالبكاء ويجري
بدموع الأسى الصبور النيل
وفلول اليهود تلهو بأرضي
عجبا كيف تهزم الجموع فلول؟
إن القصيبي يتجاوز التجربة الرومانسية في فرديتها وذاتيتها لينطلق بها إلى آفاق أعم وأرحب، وينفذ من خلالها إلى قضايا أمته، وهنا تمتزج الرومانسية بالواقعية.. وهو لا يقف من قضاياه موقف العاجز المستسلم، بل يسعى دائما إلى إيجاد الحلول الملائمة لها، وإذا كانت الأمة العربية قد تعرضت لهجمة استعمارية شرسة، فانه واثق في قدرتها على تجاوز هذه الأزمة، ولتخرس ألسنة أولئك الذين قدروا لها الموت والفناء:
يقولون إنك مِتِّ
يقولون إنك غُسِّلتِ .. كُفِّنتِ
ثم دُفِنتِ ..
تموتين! كيف؟ ومنكِ "محمد"
وفيك الكتاب الذي نوّر الكون
بالحق حتى تورّد
وخالد منكِ
ومنكِ المثنى
وأنتِ المهند
تموتين .. كيف
وأنت من الدهر أخلد!
إن البطولة عند غازي القصيبي تعني تبني كل قيمة جميلة، فمجد الأمة وشموخها بطولة، واحترام الذات بطولة، وتقدير المرأة بطولة، وكما دافع القصيبي عن هذه القيم، فقد دافع أيضا عن "الطفولة" باعتبارها تمثل الطهر والنقاء .. والقضية عنده كل لا يتجزأ .. فحين يخاطب طفله الصغير "فارس" يتمنى أن يجد فيه "البطل" الذي تنتظره الأمة بعد أن ابتليت بالأفاقين والكذابين:
يا أهلا بك في زمن الأفاقين الكذابين المرتدين
من بصقوا في جروح فلسطين
من ساقوا لفراش هولاكو
كل بنات صلاح الدين
ورموا حطين
للبيع بسوق النخاسين
يا أهلاً بك
في زمن الرجوع إلى الأبطال
في زمن الكافر والدجال
في زمن لم يبق نقي فيه
غير الأطفال
ولا شك أن محاولات القصيبي للتجديد في … القصيدة كان لها أكبر الأثر في تطور الشعر السعودي، فقد فتح ديوان "الحمى" الباب على مصراعيه أمام الشعراء لاستخدام الأشكال الشعرية الجديدة دون خوف أو تهيب .. ومن ثم فإن هذا الديوان، سيظل علامة بارزة في مسيرة الشعر السعودي المعاصر -وكما يقول د. فوزي عيسى – لعله من النماذج التي تحتذى في الدخول إلى عالم هذا الشاعر الكبير.