لا شيء يشجع على العيش في بعض قرى مركز اليتمة جنوب المدينة المنورة فلا كهرباء ولا ماء ولا اتصالات بل لا توجد أبسط مقومات الحياة حتى ان الآبار التي كان الاهالي يعتمدون عليها في مياه الشرب قد اصبحت اثراً بعد عين من جراء السيول التي اجتاحت المنطقة.
اذن تكشف هذه الجولة في “اليتمة” عن وجود قرى تحت خط الفقر حيث وصل عدد الاسر المحتاجة وفقا لآخر مسح ميداني لجمعية البر على 34 قرية في اليتمة الى اكثر من “500” أسرة محتاجة وهذا العدد مرشح الى ان يصل الى “700” أسرة عدا التجمعات السكانية الصغيرة التي تتوزع على مناطق صحراوية وجبلية وعرة. أحد الممولين لجمعية البر باليتمة -رفض ذكر اسمه احتسابا للأجر عند الله تعالى- أوضح لنا ان جمعية البر باليتمة حديثة التكوين وتغطي خدماتها مساحة تقدر بأكثر من “5” آلاف كيلومتر تشمل جميع القرى والهجر البعيدة والقريبة من المركز والتي هي عبارة عن تجمعات سكانية من الفقراء موزعة على رقعة كبيرة من الارض من بينها مناطق شديدة الوعورة خاصة المنطقة التي تقع غرب اليتمة وتعرف باسم “فرشة الشامي” وهي منطقة فيها كثير من البدو أهل الخيام وبيوت الصفيح حيث عشرات الأسر تعيش تحت حظ الفقر في “هناجر” فيما يحاولون جمع شتاتهم بعد ان فرقهم السيل الى كيانات متفرقة في عرض الوادي.
يقول خضران اللهيبي: ان سبب مكوثهم في هذا الوادي وعدم تمكنهم من الخروج منه هو قلة حيلتهم وعدم استطاعتهم الانتقال الى موقع آخر حيث اعتاد الاهالي على ذلك الوضع قبل ان تشح المياه وتهدم الآبار جراء السيول حتى اصبحنا نقوم بشراء المياه من مركز “اليتمة” الذي يبعد 45 كم تقريبا وتعبئة الماء عن طريق “الخراج” المصنوعة من جلد الماشية لسقايتها ونحاول تدبر امور المعيشة الصعبة في هذه المنطقة التي تقع وسط مناطق جبلية موزعة على كل الجهات والطرق في اغلبها صحراوية وعرة ولا توجد لدى الجمعية سيارات كافية لايصال المساعدات الى هناك بل يتبرع بعض فاعلي الخير بايصال التبرعات بسياراتهم الخاصة ووجدنا من واجب الجمعية ان تغطي هذه المناطق رغم امكانياتها البسيطة حيث تحاول الجمعية جاهدة كفالة الايتام والارامل والمحتاجين وانشاء حلقات لتحفيظ القرآن.
الحياة وسط ظروف صعبة
لم استطع التوغل لمنطقة فرشة الشامي لان السيارة التي تقلني لا يمكنها الوصول الى اعلى المنطقة لوعورة الطريق حيث يتوقف الاسفلت عند مدرسة الفرشة التي تتعرض لخطر السيول الأمر الذي يتوجب معه نقل المدرسة الى مكان آمن قبل فوات الأوان ووقوع الفأس على الرأس.
لم أكن اتوقع ان يعيش أناس هنا وسط هذه الاماكن المخيفة والحر الشديد لانه ليس هناك ما يشجع على العيش في هذه المنطقة التي لا يوجد بها مياه ولا مزارع سوى هذه الجبال التي لا تخلو من وحوش كاسرة واعتمادهم فقط على بعض المواشي.
سألت “مرافقي فاعل الخير” الذي فضل عدم ذكر اسمه عن مصدر رزقهم, قال: انهم اعتادوا على الدقيق ومنتجات الاغنام وحياتهم بسيطة جدا حيث لا توجد كهرباء ولا يعرفون الجوال كما ان منظر الناس في “فرشة الشامي” وفي بعض الهجر التابعة لليتمة يدعو للشفقة ويدمي القلب حيث يسيرون بدون احذية وملابسهم قد عفا عليها الزمن بينما هم وسط الجبال يسمعون صوت الذئاب وهي تعوي ليلا ولكن ذلك اصبح شيئا مألوفا لديهم وعلى ما يبدو ان حياة الصحراء اكسبتهم الكثير من الشجاعة والفراسة وفطنة اهل البادية.
قرية صوري
من القرى التي وقفنا عليها قرية “صوري” التي تعد من اكثر قرى اليتمة فقرا فهي تضم عشرات المنازل والتجمعات السكانية على سفوح الجبال، ومايثير الدهشة ان تلك القرى تحتضن عشرات المزارع المحاطة بسياج حديدي “شبك” وليس بداخلها سوى اراضٍ قاحلة وبقايا جذوع النخل وآبار مهدمة ومعطلة!! فيما تحتضن اكثر من مأساة يقول مسعد الحربي “65” عاما احد اهالي القرية ويسكن في منزل شعبي متهالك يخشى سقوطه في أي لحظة على افراد اسرته المكونة من “18” شخصا: لدي ثلاث بنات معاقات احداهن في الرابعة من عمرها واثنتان كبيرتان داخل هذا المنزل، ولا ادري كيف ولا أين اعالجهن فالحال كما ترى لا استطيع الذهاب بعيدا عنهن واخي الاكبر يقيم في منزل شعبي قريبا من هنا وحاله ليس بأفضل مني واعتمادنا على الله ثم على ما تقدمه لنا الجمعية من غذاء كل شهر, كما ان السيارة الوحيدة التي لدينا تتعطل احيانا وتبقى عدة اسابيع حتى يأتي من يصلحها لنا من اهل الخير.
المركز الصحي
ولا تقتصر المعاناة على شح الموارد الغذائية بعد موت عدد كبير من المزارع وانعدام موارد المياه في قرى اليتمة بل ان بعد المركز الصحي الوحيد لكافة القرى التابعة لليتمة الامر الذي يجعل المخاطر تزداد لاسيما وان سكان القرى يتعرضون بشكل مستمر للدغات الافاعي والثعابين والعقارب فيما تبعد بعض القرى النائية عن مركز صحي اليتمة بمسافة ساعة على الاقل وهذا يعني ان حالات المرضى سوف تزداد سوءا لاسيما حالات التسمم, موضحا بأن قرى اليتمة التي يبلغ عددها ثلاثين قرية وهجرة ويبلغ عدد سكانها “5” آلاف نسمة بمساحاتها الشاسعة لايوجد بها سوى مركز صحي واحد فيما يشكل الشباب اكثر من 75% من سكان اليتمة والقرى التابعة لها.
يقول عبدالله السهلي مدير جمعية البر الخيرية باليتمة أن الجمعية تقدم معونات لاكثر من “720” اسرة فقيرة وقد قسمت هذه الاسر الى ثلاث فئات: الفئة (أ) وتحصل على اعانة شهرية هي عبارة عن سلة غذائية متنوعة، حيث لا يمكن تأخير الاعانة عنها نظرا لانه ليس لها عائل او دخل شهري وهم يعتمدون على الجمعية بشكل كامل والفئة (ب) وهي اسر تحصل على اعانة كل ثلاثة اشهر تقريبا بحسب الكميات المتوفرة من المواد الغذائية فيما تحصل الاسر فئة (ج) على اعانة في شهري شعبان ورمضان فيما تحصل كل الفئات على حقائب مدرسية بداية كل فصل دراسي.
وعن ما تقدمه الجمعية يقول السهلي ان السلة التي تقدمها الجمعية تشمل «5» كيلو غرام من الارز وكيس دقيق وسكر وشاي وزيت و «3» معلبات فول لكل اسرة.
ويقول بندر حامد مسؤول الحسابات في الجمعية بأن الجمعية تواجه في بعض الاحيان نقصا في مواردها حيث تنفد عدة مشاريع من ضمنها مشروع السلة الغذائية ومشروع كفالة الايتام حيث تكفل الجمعية “110” ايتام بقرى اليتمة وقد انتهت الجمعية مؤخرا من بناء ثلاثة منازل صغيرة لاسكان ثلاث اسر بها ارامل وايتام كانوا يعيشون في القرى النائية وذلك بمساعدة من بعض المتبرعين اضافة الى مشروع السقيا بالوايتات حيث قامت الجمعية خلال العامين الماضيين بانشاء «9» خزانات لسقيا الاهالي بسبب النقص الحاد في مياه الشرب في اليتمة وكافة القرى التابعة لها ونقوم بشرائها من قرية «ابار الماشي» وقرية «العشيرة» يوميا بسعر لايقل عن «70» ريالا.
التبالين يمر باليتمة
خط «التبالين» الذي يربط المنطقة الشرقية من الجبيل ويصل للبحر الاحمر تحديدا الى ينبغ لايبعد سوى «50 كلم» عن اليتمة وكما ذكر احد السكان ان هناك شركة بالمنطقة الا انه لايوجد بها موظف من ابناء المنطقة اذ ان معظم العاملين فيها من الجنسيات الاسيوية باستثناء عدد من الشباب الطموحين الذين لديهم رغبة في العمل والمدربين على قيادة السيارات والشاحنات الكبيرة وهناك من يرغب بالعمل في هذه الشركة بأي اجر لان معظم ابناء المنطقة ليس لديهم عمل يقتاتون منه لتوفير لقمة عيش لاسرهم ولذلك تأتي مطالبة الاهالي بضرورة مساعدة الشباب في ايجاد عمل لهم في هذه الشركة لان السعودة مطلب مهم بدلا من الايدي العاملة الاجنبية التي تأخذ اكثر مما تعطي!
الطريق الزراعي الذي يربط قرى ومزارع اليتمة طريق ضيق وسبق ان شهد العديد من الحوادث خلال الفترة الماضية ومن الصعب مرور سيارتين في وقت واحد في نواح متفرقة منه حيث يحتاج الى توسعة. كذلك يوجد عدد من الجمال السائبة خاصة في الليل مما يشكل اكبر الخطر على المسافرين!
سيارات بلا لوحات
واللافت للنظر انه توجد سيارات ليس عليها لوحات مرورية خاصة سيارات النقل القديمة وقد استوقفت احدى هذه السيارات للاستفسار عن عدم وجود لوحات عليها ليخرج احد العمال من الجنسية الاسيوية فيخبرني بأنها سيارة خاصة باحدى المزارع وتستخدم فقط للمزرعة ولا يتجولون بها في المنطقة لانهم يخافون من القبض عليهم من قبل رجال الامن ومن ثم حجزها كيلا يتم استخدامها في اعمال مشبوهة.
كذلك تنتشر العمالة الوافدة في ارجاء متفرقة من اليتمة بعيدا عن انظار رجال الجوازات رغم قلة الدخل المادي هناك!
كلية المعلمات حلم الاهالي
سألت رجلا استوقفته عند احدى محطات الوقود عما اذا كانت هناك هجرة من شباب المنطقة الى المدن القريبة فأجاب بان كثيرا من ابناء اليتمة قد غادروا المنطقة في سبيل البحث عن حياة افضل وتحسين المستوى المعيشي لهم ولاسرهم وهناك من ترك المنطقة حتى يكمل اولاده تعليمهم الجامعي.
ويؤكد المواطن عبدالله السهلي ان منطقة اليتمة في امس الحاجة الى افتتاح كلية اعداد معلمات مشيرا الى كبر حجم المحافظة وسكانها مما يوفر العوامل التي توجب افتتاح الكلية ومنها كثرة المدارس والاعداد الكبيرة لخريجات الثانوية العامة سنويا ولهذا يطالب المواطنون المسؤولين في التعليم العالي بسرعة انشاء هذه الكلية.
وقد اكد ولي امر احدى الطالبات الدارسات خارج اليتمة وهو عبدالله المغير وجود صعوبات تواجه الطالبات في رحلة الذهاب والاياب حيث يضطر الى السفر لمسافة 340 كلم ذهابا وايابا من اجل توصيل ابنته الى الكلية في مدينة جدة وذكر انه لايريد ادخالها السكن التابع للكلية لان السكن الخاص يكلف كل طالبة ما يقارب الالف ريال في كل فصل دراسي والمكافأة التي تتلقاها الطالبة لاتكفي لشراء مستلزماتها الدراسية!
ويضيف المغير انه يعرف طالبات من المنطقة من الاوائل على دفعاتهن ولكن لم يتيسر لهن دخول الكليات لظروفهن الاسرية الصعبة مما جعلهن يضعن شهاداتهن على جدران غرفهن ولايستفدن منها على الرغم من انهن يردن مواصلة التعليم بشتى الطرق ولكن العين بصيرة واليد قصيرة على حد تعبيره.