-A +A
عبدالعزيز الوذناني
مع التقدم التكنولوجي والقبول الشعبي للتعليم عن بعد والسماح للجامعات الأجنبية النوعية بفتح فروع لها في السوق السعودي، التعليم الجامعي في المملكة مقبل على تغيرات جذرية خلال الخمس إلى العشر سنوات القادمة. هذه التغيرات ستخلق واقعاً جديداً وسيكون التعليم النوعي هو الرهان الرابح وفي متناول الكثير من أسر الطبقة المتوسطة السعودية سواء أكان التعليم النوعي الوطني أو التعليم النوعي العابر للقارات. باحتصار شديد المستقبل للتعليم النوعي والمنافسة ستدفع الجامعات الوطنية وخاصة الجامعات الأهلية المميزة للارتقاء بجودتها التعليمية وهذا بدوره سيساهم بنقل الاقتصاد الوطني إلى مستوى أعلى وأرحب من التنمية والكفاءة والإنتاجية والتنافسية ليس على المستوى المحلي والإقليمي فحسب بل على المستوى الدولي إن شاء الله.

بحكم قربي من التعليم الجامعي وخاصة الجامعات الأهلية المميزة سوف أركز في هذا المقال على أثر هذه التغيرات على التعليم بشكل عام وعلى الجامعات الأهلية بشكل خاص. الجامعات الخاصة حديثة النشأة في المملكة ويمكن تقسم هذه الجامعات إلى مجموعتين المجموعة الأولى أو ما يعرف بنادي الكبار(The Big League) وهي تتضمن عدداً محدوداً جداً من الجامعات الأهلية التي لا يتجاوزعددها أصابع اليد الواحدة وهي ما يمكن أن يطلق عليها الجامعات النوعية في القطاع الخاص وهذه الجامعات أنشئت في الأساس لاستقطاب الطلبة المتفوقين من أبناء الطبقة الوسطى والأسر الميسورة وتوفير التعليم النوعي لهم الذي يماثل إلى حد كبير التعليم في معظم الجامعات الأمريكية الجيدة. هذه الأسر التي تقدر أهمية التعليم النوعي هم أنفسهم في الغالب خريجو الجامعات الغربية إن لم يكن كلا الأبوين فأحدهما على أقل تقدير. هذه الأسر على استعداد لدفع تكاليف التعليم العالية نسبياً شريطة أن يحصل أبناؤهم وبناتهم على التعليم النوعي الذي يتمنونه لهم وفي نفس الوقت يكونون أمامهم وتحت أنظارهم.


المجموعة الثانية من الجامعات الخاصة تتضمن السواد الأعظم من الجامعات الأهلية وهذه الجامعات أنشئت في المقام الأول كبديل للجامعات الحكومية وتستهدف الطلبة الذين لم يحالفهم الحظ في القبول بالجامعات الحكومية وبعد توقف برنامج الابتعاث الداخلي أصبحت الغالبية العظمى من طلبتها إن لم يكن جميعهم من أبناء الطبقة الوسطى الذين لم يحالفهم الحظ بالقبول في إحدى الجامعات الحكومية. مستوى التعليم في هذه المجموعة فيه تفاوت كبير جداً ولكن جودة التعليم في مجملها ممكن يُقال عنها من المتوسط وأقل لأسباب عدة لعل من أهمها نوعية الطلبة وأعضاء هيئة التدريس في تلك الجامعات. هذان النموذجان هما التصنيف الأشمل للجامعات السعودية الخاصة.

تأثير جائحة كورونا على مستقبل التعليم الجامعي

قبل جائحة كورونا كانت النظرة للتعليم عن بعد تتسم بشيء من الريبة وربما عدم المصداقية، خاصة في ما يتعلق بجودة هذا النوع من التعليم ولكن مع التقدم التكنولوجي وخاصة تطور تقنيات ووسائل التعليم وبعد هذه الجائحة وتجربة المجتمع للتعليم الإلكتروني ربما أصبح لدى المجتمع تقبل وأطمئنان للدراسة عن بعد وهذا سيشجع الجامعات الكبيرة التي تتمتع بسمعة مرموقة أو ما يسمى بجامعات الصف الأول بالتوسع في طرح بعض برامجها عن طريقة التعليم عن بعد وهذا سيساعدها في قبول عدد أكبر من المتقدمين مع الحفاظ على معايير القبول لضمان جودتها التعليمية وهذا ممكن، حيث يتقدم سنوياً إلى هذه الجامعات آلاف الطلبة المتفوقين ولكن بحكم محدودية المقاعد فإن القبول في هذه الجامعات عادة لا يتجاوز عشرة في المئة من مجموع المتقدمين، فمثلاً بدل ما تقبل كلية إدارة الأعمال بجامعة كليفورنيا - بركلي (Hass School of Business at University of California – Berkeley) ستمائة طالب في السنة ممكن تقبل ستين ألف طالب في السنة. توسع جامعات الصف الأول - أفضل عشرين جامعة في العالم على سبيل المثال أو ما يسمى (Top 20 Universities) - في القبول مع المحافظة على معايير القبول والتميز النوعي لبرامجها الدراسية سيؤدي هذا إلى تقليل تكاليف الدراسة في هذه الجامعات مما يجعلها في متناول الطبقة الوسطى ويمكن أبناءها وبناتها من الدراسة بهذه الجامعات وهم تحت أنظارهم وفي ظل رعايتهم وحمايتهم.

هذا سيكون له تأثير كبيرعلى مستقبل التعليم الجامعي وعلى جامعات الصف الثاني وما بعدها. كيف؟ الجامعات النوعية على اختلاف أنواعها، أفضل مائة جامعة (Top 100 Universities) يتنافسون سنوياً على عدد محدود من متفوقي خريجي الثانوية العامة، فعندما تتوسع جامعات الصف الأول في القبول فهذا يشكل ضغطاً كبيراً على جامعات الصف الثاني التي بدورها ستتوسع في القبول على حساب جامعات الصف الثالث وستبدأ في البحث عن طلبة لبرامجها لكي تعيش وتحافظ على تأثيرها في العالم من خلال خريجيها الذين يعدون من قبل هذه الجامعات ليكونوا مؤهلين لتولي المناصب القيادية في الشركات وفي مجالات الاقتصاد والسياسة الدولية. فلو فرضنا أن أعلى عشرة في المائة من خريجي الثانوية تم قبولهم في جامعات الصف الأول، فستضطر هذه الجامعات إلى المنافسة على أفضل عشرين أو حتى ثلاثين في المائة من خريجي الثانوية العامة وكذلك تفعل جامعات الصف الرابع وهنا يبدأ السباق إلى القاع أو الهاوية (Race to the bottom) وهذا سيقضي على الكثير من الجامعات ولن يستطيع الاستمرار إلا الجامعات التي استطاعت بناء اسمها على مر العقود كجامعات نوعية (Brand Names). بكل تأكيد هذا لن يحدث بين يوم وليلة ولكن خلال الخمس إلى العشر سنوات القادمة ستعاني الجامعات التي لم تستطع بناء اسمها كجزء من حوار الأسرة في نهاية كل عام عندما تناقش المستقبل التعليمي لأبنائها وستحاول الاستمرار ولكن في نهاية المطاف ستغلق أبوابها وتعلن إفلاسها عندما تدرك بأن الركب قد فاتها وأنه يصعب عليها إعادة دورة التاريخ إلى الوراء.

تأثير هذه التغيرات على التعليم في المملكة

التغيرات هي جزء من التطور التاريخي والتنمية البشرية ولكن السؤال الأهم هو: ماهو تأثير هذه التغيرات على سوق التعليم في المملكة وما أثر ذلك على الجامعات السعودية وخاصة الجامعات الأهلية؟ نحن جزء من العالم وأي تغير إيجابي وخاصة في مجال حيوي مثل التعليم الجامعي سنستفيد منه. نحن على مشارف بدايات هذه التغيرات والتي ستكون تغيرات جذرية بحق ولمصلحة التعليم النوعي وتكوين وتطوير رأس المال البشري الوطني المتسلح بالتعليم النوعي والتدريب الجيد. تقدم الأمم وتطورها لا يأتي بين يوم وليلة، بل هو نتاج عقود من الاستثمار المخطط والمدروس في الإنسان الذي هو جوهر التنمية الشاملة بمفهومها الواسع وعمود سنامها، فليس هناك استثمار في الإنسان أهم من التعليم بشقيه التعليم العام والتعليم الجامعي. القارئ لتاريخ التنمية البشرية على مر العصور يدرك أن المعرفة والخبرة التراكمية هما الأساس الذي تبني عليه الأمم تقدمها وتطورها وصناعة تنميتها المستدامة.

الدول المتقدمة أدركت هذه الحقيقة فركزت على بناء الإنسان وهيأت له سُبل ووسائل النجاح. هذه هي «الوصفة» التي نحتاج إلى إتقانها، ومن وجهة نظري هذه التغيرات تمثل فرصة تاريخية يجب اغتنامها وتشجيعها للتركيز على تأسيس البنية التحتية للتعليم النوعي وتشجيعه كقيمة مجتمعية وهذا بدوره يضع اللبنات الأساسية لبرنامج تنمية الموارد البشرية. لكي نكون أكثر دقة، على الرغم من أن التعليم النوعي هو الركيزة الأساسية والعمود الفقري لتكوين رأس المال البشري الوطني ولكن لوحده لا يكفي بل يجب إصلاح سوق العمل وترشيد الدعم الحكومي بما يحقق إستراتيجية بناء الإنسان «السعودي» المؤهل بالتعليم النوعي وتمكينه من مفاصل الاقتصاد والقرار الوطني لكي يكتسب الخبرة التراكمية، فإذا كان التعليم النوعي هو العمود الفقري لرأس المال البشري فالخبرة التراكمية هي جناحاه.

مما لاشك فيه سيكون لهذه التغيرات أثر كبير على التعليم في المملكة وخاصة على المدى الطويل، فمثلما ذكرت آنفاً نحن على مشارف بداية هذه التغيرات، فقانون السماح للجامعات الأجنبية النوعية بفتح فروع لها في المملكة لم يصدر إلا في الربع الأخير من العام الماضي 2019م ومما لا شك فيه بأن هناك عدداً من الجامعات الأمريكية النوعية والبريطانية وربما بعض الجامعات العالمية التي ترغب في فتح فروع لها في السوق السعودي على غرار فروعها في الصين والهند ودول أخرى، فالاقتصاد السعودي هو الأهم في المنطقة ويزخر بالكفاءات والطلبة المتفوقين. فدخول الجامعات العالمية النوعية للسوق السعودي هو مسألة وقت ووجودها ضرورة ملحة لنقل التعليم النوعي في السوق السعودي إلى مستوى أعلى وسيشجع الجامعات السعودية وخاصة الجامعات الأهلية المتميزة على المنافسة والارتقاء بجودة ومستوى تعليمها إلى العالمية.

أما في ما يخص الجامعات العالمية المرموقة أو ما يُعرف بجامعات النخبة (Ivy League Universities) مثل هارفارد وMIT وشيكاغو وستانفورد ويأل، فلن يتوقع أحد بأنها ستفتح فروعاً لها خارج الوطن الأم في المستقبل المنظورعلى أقل تقدير ولكن مع التقدم التكنولوجي والقبول الشعبي والأكاديمي للتعليم عن بعد فمن المحتمل أن تقوم هذه الجامعات بطرح بعض برامجها عن طريقة التعليم عن بعد (Distance Learning) خلال السنوات الخمس القادمة. على الرغم من أن هذه الجامعات قامت بطرح عدد من البرامج التدريبية والمواد الدراسية عن طريق الإنترنت ولكنها إلى الآن لم تطرح أياً من برامج الدرجات العلمية عن طريق التعليم عن بعد. في الفترة الماضية كانت هذه الجامعات مترددة في وضع ثقلها خلف التعليم عن بعد إلا أن هناك بعض المعطيات التي تشير إلى أنها بدأت في تقبل التعليم الإلكتروني ولعل تجربة جائحة كورونا والقبول الشعبي والأكاديمي للتعليم عن بعد دفع جامعات النخبة إلى التفكير الجدي في خوض غمار التعليم عن بعد (Distance Learning)، فعلى سبيل المثال وليس الحصر قامت جامعة هارفرد بتحويل المنصة (Platform) التي تقوم من خلالها بعرض برامجها التدريبية على الإنترنت من HBX إلى HBS أي باسم كلية إدارة الأعمال (Harvard Business School - HBS) على الرغم من أنها ظلت مترددة في هذا لعدة سنوات حتى لا تتأثر سمعة كلية إدارة الأعمال بالتعليم عن بعد الذي كان ينظر إليه بشيء من الدونية. في المقابل توجد جامعات مرموقة مثل (John Hopkin University and University of California at Los Angeles) وعدد من الجامعات النوعية الأخرى قامت بخوض تجربة التعليم عن بعد حيث تقدم برامج مثل برنامج ماجستير إدارة الأعمال (MBA) وجامعات أخرى تفكر جداً في هذه التجربة حتى لا يفوتها الركب وتجد نفسها متأخرة عن الجامعات المنافسة في اكتساب الخبرة التراكمية في هذا المجال.

خاتمة القول

قطاع التعليم الجامعي السعودي سوق واعدة ومغرية وعدد الطلبة سيتضاعف إلى أكثر من أربعة ملايين طالب وطالبة خلال الخمس سنوات القادمة وباختصار شديد المستقبل للتعليم النوعي ومع التقدم التكنولوجي والقبول الشعبي للتعليم عن بعد ومع الدخول المتوقع للجامعات الأجنبية النوعية للسوق السعودي، لن تستمر إلا الجامعات النوعية - وهنا أقصد الجامعات الأهلية على وجه الخصوص - التي تركز على بناء اسمها كجامعات وطنية نوعية أو ما يسمى بـ «Brand» حتى يصبح اسمها جزءاً من حوار الأسر السعودية عند مناقشة المستقبل التعليمي لأبنائها في نهاية كل عام دراسي.

كذلك التعليم عن بعد وهنا أقصد التعليم النوعي المطابق لمعايير وجودة الجامعات النوعية سيصبح واقعاً ومقبولاً شعبياً وأكاديمياً خلال العشر سنوات القادمة. هذه التغيرات في مصلحة كل من الاقتصاد الوطني والتعليم النوعي في المملكة، فنحن في أمس الحاجة إلى التعليم النوعي الذي لا يلبي حاجة سوق العمل المحلي فحسب بل يساهم في نقل الاقتصاد الوطني إلى مستوى أعلى وأرحب من التنمية والكفاءة والإنتاجية والتنافسية ليس على المستوى المحلي والإقليمي فحسب بل إلى رحاب العالمية بمشيئة الله، فدخول الجامعات الأجنبية النوعية للسوق السعودي سيدفع الجامعات السعودية وخاصة الجامعات الأهلية المتميزة إلى المنافسة والارتقاء بجودة ومستوى تعليمها إلى العالمية. هذا بدوره سيدفع الجامعات الخاصة الضعيفة التي لم تستطع المنافسة إلى الخروج من السوق وفي الغالب سيتم الاستحواذ عليها من قبل الجامعات الأجنبية التي تدخل السوق السعودي أو من قبل الجامعات الوطنية النوعية.

من وجهة نظري سيكون لهذه التغيرات تأثير كبير وخاصة على المدى الطويل ولكن في المدى القصير والمتوسط فأعتقد أن الوزارة ستكون متحفظة وربما تبدأ بما يسمى (Hybrid Education) وهو التعليم الذي يخلط بين التعليم التقليدي والتعليم عن بعد ولكن العشر سنوات القادمة سترى تغيراً في قناعات الوزارة عندما تطمئن إلى سلامة معايير وجودة التعليم عن بعد وخاصة عندما تقوم الجامعات العريقة أو ما يعرف بـجامعات النخبة (Ivy League Universities) بطرح بعض برامجها المؤدية إلى درجات علمية عن طريق التعليم عن بعد.

a_alwathnani@yu.edu.sa